آراء وتحليلات
سورية الجريحة "أمّ الجميع"..كيف استقبلت النازحين اللبنانيين؟
كثيرة هي الكلمات والجمل التي تعبر عن وحدة الحال والمصير والأمل التي تتوارد على لسان الشعبين السوري واللبناني، ولاسيما ممن وفدوا إلى سورية مؤخرًا، الثقة بالمقاومة، الدعاء المستمر، نصر جديد، وهزيمة للكيان الصهيوني، وذكرى كلمات الشهيد القائد سماحة السيد حسن نصرالله والإيمان المطلق بالوعود التي تعهد بها سابقًا قبل استشهاده.
لعلّ أجمل التعبيرات التي بقيت في ذاكرتي، خلال لقائي للعديد من أهلنا اللبنانين في سورية، هي دعاء الجميع، خصوصًا الأمهات، لرجال المقاومة، فلن أنسى تلك المسنّة القادمة من الجنوب وتحديدًا من مارون الراس التي قالت: "نفتخر بهؤلاء الشباب والرجال على الجبهات، فخرنا بهم إن انتصروا وفخرنا يكبر إن عادوا شهداء". وأخرى تتذكر منزلها وأرضها وابنها وزوجها الشهداء؛ وتقول "فداءً للمقاومة".. وطفل في عينيه طموح ينضح بمماثلة نهج والده بالمقاومة والشهادة، فهل يمكن لمثل هذه الإرادة والإيمان والعقيدة إن تنهزم أمام سردية وتهويل الدعاية الصهيونية؟
على الرغم من الواقع الآليم والمتردي للحياة المعيشية في سورية، بعد أكثر من عقد تعرضت له البلاد لأبشع صور الحرب والإرهاب واستنزاف المقدرات والحصار الاقتصادي، إلا أن اللبنانيين، ولاسيما أهالي الجنوب والبقاعين الغربي والشمالي وبعض سكان الضاحية الجنوبية، فضلوا القدوم إلى سورية، والتي يرونها "أم الجميع". سورية بالرغم من جراحها وآلامها قدمت، على الصعيدين الشعبي والرسمي، أقصى ما يمكن تقديمه للوافدين اللبنانيين الذين زاد عددهم حتى إعداد هذا المقال عن مئة وثلاثين ألف وافد، توزعوا في عدد من مناطق دمشق وريفها وحمص وطرطوس وحلب.
التسهيلات لاستقبال الوافدين اللبنانيين، سواء الذين يتوجهون نحو سورية للإقامة المؤقتة أم بهدف الانتقال منها إلى دول أخرى ومنها العراق، قُدمت من دون أي تعقيدات، يمكن تلمسه وفقًا لتصريحات معظم القادمين الذين يمكن أن تلتقي بهم في أحياء دمشق وريفها وفي مدن سورية أخرى. هذه التسهيلات بدأت على الحدود، والتي وإن شهدت ازدحامًا كبيرًا وبعض الفوضى بسبب الأعداد الكبيرة من القادمين السوريين واللبنانيين في الأيام الأولى من العدوان بالتزامن مع استهداف قوات الاحتلال للمعابر البرية وخاصة عند الحدود مع حمص وريف دمشق، إلا أنها مرت مع الكثير من تيسير الاستقبال وخاصة بعد الاجتماع الأول للرئيس بشار الأسد مع الحكومة الجديد مع نهاية شهر أيلول الماضي وتوجيهاته بتسخير كل الإمكانات الممكنة لاستقبال اللبنانيين، وصولًا إلى مراكز الإقامة. وقد توزعت هذه المراكز بين ثلاثة أشكال، إما القدرة على استأجر المنازل، أو التوجه نحو الأقارب، أو باتجاه مراكز الإقامة المؤقتة والفنادق التي فتحت أبوابها لاستقبال المئات من العوائل، مرورًا بتقديم الخدمات الصحية المجانية وتوزيع المياه والنقل وغيرها.
لاستكمال الصورة أكثر في الأبعاد المتعددة السياسية والعقدية والاجتماعية والإنسانية، يمكن إن نورد العديد من النقاط لإدراك وحدة المصير الشعبي بين السوريين واللبنانيين على حدٍ سواء:
أولًا؛ لم يكن ما حصل من اعتداء صهيوني على الجنوب اللبناني، ثم مجزرتي الثلاثاء والأربعاء وكذلك استشهاد القادة وفي مقدمته الشهيد الأسمى سماحة القائد "حسن نصرالله"، هو شأن لبناني بحت، بل هو شأن سوري أيضًا على المستويين الشعبي والرسمي. على الصعيد الشعبي؛ مثّل استشهاد سماحة السيد مصاب كبير حدث في لبنان، ولكن ترددات آلامه وصلت إلى سورية وخاصة لما يمثله الشهيد من كاريزما سياسية وشعبية عند السوريين، كما أن هناك أكثر من ٥٠٠ سوري سقطوا في لبنان ما بين شهيد وجريح. أما على المستوى الرسمي؛ فهناك إدراك أن هذا العدوان الصهيوني على لبنان هو استهداف للخاصرة السورية وأمنها القومي، وهو استكمال للمشاريع القديمة الساعية لتغيير معالم غرب آسيا (الشرق الأوسط) انطلاقًا من البوابة اللبنانية، وإن تقديم يد العون للبنانيين هو واجب وطني سوري.
ثانيًا؛ على الرغم من ضعف الإمكانات السورية وإدراك اللبنانيين لهذا الأمر، إلا إنهم فضلوا البقاء في سورية لعدة أسباب، أبرزها تتمثل بقربهم من الأراضي اللبنانية وأملهم بالعودة القريبة بعد نصر جديد تسطره المقاومة اللبنانية، ووجود روابط القرابة والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد المشتركة مع السوريين. هذا فضلًا عن اعتياد الكثير من هذه العوائل من زيارة سورية حتى في أيام الحرب التي تعرضت لها، إلى جانب ما تتخذه الدولة السورية من خدمات وإجراءات تجاههم.
ثالثًا؛ عدم معاملة الوافدين اللبنانيين كلاجئيين في سورية، بل استضافتهم كزائريين يقدم لهم كل أشكال التسهيلات، واتخاذ ما يلزم على المستويين الرسمي والشعبي، لمحاولة تأمين احتياجاتهم بما في ذلك الإقامة من دون الحاجة لإقامة المخيمات، وتسهيل إيصال المساعدات القادمة من العراق إليهم من خلال تسليمها من الجهة المرسلة للجهات المسؤولة عن توزيعها مباشرة، إلى جانب الخدمة الصحية المجانية المقدمة لهم، سواء كان ذلك من الهلال الأحمر العربي السوري أم من الهيئات الصحية الرسمية والخاصة.
رابعًا؛ الأمل الشعبي السوري اللبناني والثقة المرسخة في نفوس وعقلية الجميع بقدرة المقاومة الإسلامية، من تحقيق نصر جديد، وإنكار لما يروج له من تهجير دائم، والاستعداد للعودة إلى قرى الجنوب على غرار نصر تموز ٢٠٠٦.
خامسًا؛ غياب الدعم العربي والدولي ولاسيما المنظمات الدولية التي تتباهى بزي العمل الإنساني عن تقديم مد العون للوافدين اللبنانيين المتواجدين في سورية، في تأكيد واضح على عدم موضوعية هذه المنظمات وتأثير الضغط والتأثير والتمويل الغربي على اجنداتها وسياستها المزدوجة. وهذا ما يمكن ملاحظته في تناقض عمل هذه المنظمات ومواقفها تجاه الأزمة الأوكرانية التي أغدقت عليها مساعدات بشكل جنوني، وتجاه شعوب المنطقة ولاسيما سورية ولبنان وفلسطين التي سارعت للتباكي عليهم من دون تقديم مساعدات إنسانية تكفل لهم حياة كريمة، ما يؤكد ضلوعها بالعدوان عليهم.
وجوه الصغار والكبار والرجال والأناث من اللبنانيين كما السوريين الذين قدموا أغلى ما يملكون من أجل المقاومة لم تتزعزع ثقتهم يومًا بقدرات ووعود رجال الله في الميدان. وما سعت إليه الدعاية الصهيونية وما تبنته بعض الوسائل الإعلامية والعربية واللبنانية من استهداف للحاضنة الشعبية للمقاومة، لم تحقق أي هدف من أهدافها. فما تزال العزيمة والثقة والإيمان المطلق بالنصر والصلاة بالأقصى أو الشهادة لتعبيد هذا الطريق قائمًا ومرسخًا أكثر من السابق، ومن يريد التأكد عليه زيارة سورية وسماع حناجر وأرواح وعقول وعقيدة من ينتظر العودة إلى أرضه منتصرًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024