معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

زيارة بوتين لأذربيجان: النتائج والأبعاد الجيوسياسية
24/08/2024

زيارة بوتين لأذربيجان: النتائج والأبعاد الجيوسياسية

شكّلت زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أذربيجان يومي 18 و 19 من الشهر الحالي مادة دسمة للكثير من المتابعين والمهتمين على الصعيد العالمي، لأسبابٍ عدة، منها ما هو متعلق بتوقيت الزيارة أو مضمون المحادثات التي أجراها بوتين مع نظيره الأذري، أو ما تعلق منها بالأبعاد الجيوسياسية والإستراتيجية لتلك الزيارة.

تعتبر أذربيجان دولة مهمة للغاية من الناحية الجيوسياسية والإستراتيجية لكونها واقعة في جنوب القوقاز ومطلة على بحر قزوين، وعلى الرغم من صغر مساحتها نسبياً فإنّ موقعها الجغرافي جعلها نقطة تقاطع لكثير من مشاريع الطاقة النفطية والغازية، ولممرات ومشاريع النقل بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ومنذ استقلالها بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق حافظت أذربيجان على الاستقرار السياسي في محيط مضطرب نسبياً وخاصة في القوقاز، وحاولت إقامة علاقات متوازنة بين القوى الإقليمية والدولية مستغلة الصراع العالمي والإقليمي.

في توقيت الزيارة: 

ليست المرة الأولى التي يقوم بها بوتين بزيارة لأذربيجان، وصحيح أنها الزيارة الأولى له منذ ست سنوات، لكنها الزيارة الثامنة له بصفته رئيساً لروسيا الاتحادية، وهذا يعكس أهمية أذربيجان في السياسة الخارجية الروسية، وعند الحديث عن توقيت الزيارة الحالية فيمكن لنا الإشارة إلى عوامل عدة مرتبطة بهذا الأمر: 

أولاً - جاءت الزيارة في ظل الاختراق الذي حققته أوكرانيا في مقاطعة كورسك الروسية بدعم وتخطيط ومشاركة الغرب الجماعي، والضجة الإعلامية المثارة حول هذا الحدث لتضخيمه، وبالتالي فإن بوتين يريد من خلال هذه الزيارة الإيحاء بأن جبهة كورسك تحت السيطرة وأن روسيا في وضع مريح على طول خطوط الجبهة في أوكرانيا.

ثانياً - تأتي الزيارة بعيد المناورات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وأرمينيا، وقبيل زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي ماكرون إلى أرمينيا في شهر أيلول/ سبتمبر القادم، وفي الوقت الذي يحاول فيه "الناتو" إبعاد أرمينيا عن المحيط الأوراسي بما فيه منظمة معاهدة الأمن الجماعي وإلحاقها بتحالفات وشراكة مع الغرب، فإنه من الطبيعي أن تلجأ روسيا للتقارب مع أذربيجان لخلق نوع من التوازن، وكذلك لإعادة تفعيل الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان للتوصل لإتفاق سلام دائم يسحب من الغرب مبررات التسلل إلى منطقة القوقاز.

ثالثاً - تأتي الزيارة قبيل أسابيع من انعقاد قمة "بريكس" في مدينة قازان الروسية حيث تترأس روسيا المجموعة وتسعى لمزيد من تطوير هياكلها الاقتصادية وتوسيع تمددها الجغرافي وخاصة في منطقة أوراسيا لمواجهة النفوذ الأطلسي ومحاولات "الناتو" للتسلل إلى تلك المنطقة، وبعيد زيارة بوتين أعلنت الخارجية الأذربيجانية بأن "باكو" تقدمت بطلب للانضمام إلى مجموعة "بريكس" بشكل رسمي.

رابعاً - أنهت إيران بنجاح مؤخراً المرحلة الأخيرة من العملية الدستورية التي تضمنت انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة، صادق عليها البرلمان الإيراني، ومن المتوقع أن تضع مع روسيا اللمسات الأخيرة على اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين البلدين، والتي تتضمن محاوراً جيوسياسية وجيواقتصادية تستدعي التشبيك مع أذربيجان التي تمتلك حدودًا مشتركة مع الدولتين وتشترك معهما بالتشاطؤ على بحر قزوين.

في نتائج الزيارة:

بحسب الكريملن، فإن جدول أعمال الزيارة تضمن تطوير علاقات الشراكة والتحالف الإستراتيجي بين روسيا وأذربيجان، كما جرى التطرق إلى المشاكل الدولية والإقليمية الراهنة.

على صعيد العلاقات الثنائية، فإن روسيا تعتبر من أهم الشركاء التجاريين لأذربيجان وتحتل المركز من بين شركائها التجاريين، وقد ارتفع حجم التجارة بين البلدين بمقدار 17.5% في نهاية العام الفائت ليصل إلى 4.4 مليار دولار، واتفق الجانبان على رفع حجم التبادل التجاري بينهما بوتيرة أسرع، ولا بد من الإشارة إلى وجود 1300 شركة روسية تعمل في السوق التجارية في أذربيجان.

وتقليدياً، فإن أذربيجان تصدر المنتجات الزراعية لروسيا، وساهمت العقوبات التي فرضها الغرب الجماعي على روسيا في تنويع أذربيجان لصادراتها إلى روسيا لتشمل السلع الصناعية مثل السيارات والإلكترونيات والأجهزة المنزلية، ومن المتوقع أن تتحول أذربيجان إلى بوابة لدخول البضائع إلى روسيا من آسيا، وخاصة البضائع البديلة بفعل العقوبات الغربية.

ويسهم قطاع الوقود والطاقة بدور بارز في علاقات البلدين، حيث تعمل أكبر شركات النفط والغاز الروسية في أذربيجان على غرار "غاز بروم" و "روسنفت"، وهناك عقود بين الجانبين لتوريد الغاز من روسيا إلى أذربيجان التي تصدر الغاز بدورها إلى أوروبا، واتفق الجانبان على البدء بإنتاج ناقلات نهرية وبحرية حديثة لنقل المنتجات النفطية وخاصة على طريق آزوف-البحر الأسود، وطريق بحر قزوين لتزويد الاتحاد الأوروبي بالطاقة من أذربيجان، ومن غير المستبعد أن تتحول أذربيجان وبمساعدة روسيا إلى مركز إقليمي وعالمي للمنتجات النفطية.

وفي المجال العسكري تعتبر روسيا أحد الموردين الرئيسيين للسلاح إلى أذربيجان، فقد بلغت قيمة هذه التجارة مليارات الدولارات، وهذا يمكن أن يشكل أساسًا للتعاون الأمني والإقليمي بين الطرفين، ولعل زيارة أمين مجلس الأمن القومي الروسي "سيرغي شويغو" إلى أذربيجان قبل أسبوع في طيارة بوتين وحديثه عن تهديد الغرب لأمن القوقاز عبر التدخل في شؤونه خير دليل على ذلك.

ولعل الملف الأهم الذي جرت مناقشته خلال الزيارة يتعلق بممر شمال - جنوب الذي يربط روسيا بإيران وتمر أحد أهم ممراته عبر أذربيجان، وخاصة سكة حديد "رشت-أستارا"، حيث ناقش الجانبان ضرورة استكمال خطوط سكك الحديد الخاصة به.

الأبعاد الجيوسياسية للزيارة : 

أولاً - في ظلّ نجاح الولايات المتحدة في إعادة أوروبا إلى الحظيرة "الناتوية" وفصلها عن روسيا بعد سنوات من التقارب بين روسيا وأوروبا، واضطرار روسيا إلى التوجه شرقاً، فإن موسكو تطمح لإنشاء فضاء "جيوسياسي" جديد بعناوين اقتصادية وتجارية يشمل دولاً أوراسية عديدة إلى جانبها وهذه الدول هي ( بيلاروسيا، كازخستان، أذربيجان، أوزباكستان، تركيا، إيران )، لذلك فإنه يمكن القول، إن البعد الأوراسي كان الأهم في زيارة بوتين لأذربيجان التي تتوسط هذا الفضاء الأوراسي الذي تطمح إليه موسكو، والذي يصل عدد سكانه إلى ما يقارب 300 مليون نسمة .

ثانياً - يحتل ممر شمال-جنوب أهمية بالغة بالنسبة لروسيا وتجارتها، و يمثل شرياناً اقتصادياً لا غنى لها عنه، يربطها مع جميع الدول الواقعة في حوض المحيط الهندي، وكذلك الدول العربية من بوابة الخليج، وفي ظل تزاحم مشاريع الممرات كمشروع الممر الهندي الأوروبي عبر الشرق الأوسط، ومشروع ممر طريق التنمية العراقي، وغيرها، فإنه يمكن القول بأن ممر شمال-جنوب الذي سيربط "سان بطرس بورغ" في شمال روسيا مع كل من إيران والهند عبر شبكة من سكك الحديد هو المشروع الأهم والأقل كلفة والأوفر حظاً بالنجاح والاستمرار، إضافة إلى أن نسبة إنجازه هي الأعلى من بين كل المشاريع التي ما زال العديد منها قيد الدراسة ويخضع لعراقيل متنوعة، وقد حاز المشروع على الجزء الأهم من زيارة بوتين لأذربيجان ومحادثاته مع علييف.

ثالثاً - سبق أن أعلنت موسكو أنها ستعمل على إخراج الولايات المتحدة من دول الاتحاد السوفييتي السابقة بشكل تدريجي، وبالتالي فإن هذه الزيارة ستساهم في المزيد من تآكل النفوذ الأميركي والغربي في الفضاء السوفييتي السابق، وفي معظم أوراسيا عبر طرح البدائل الاقتصادية و الأمنية.

رابعاً - إن استقرار القوقاز، وإتمام المصالحة بين أذربيجان وأرمينيا والتوصل إلى اتفاقية سلام شاملة ودائمة بين الطرفين برعاية موسكو التي حافظت على موقف متوازن بين الجانبين في الحرب الأخيرة التي حسمت لصالح أذربيجان في العام الفائت، سيجعل روسيا أكثر اطمئناناً وأمناً على حدودها الجنوبية، وخاصة في ظل الحرب التي يشنها عليها الغرب الجماعي بالوكالة عبر النظام الأوكراني، ولذلك كان بوتين حريصاً على التأكيد خلال لقائه بـ"علييف" على أهمية هذا الملف، وسارع بعد عودته لموسكو للاتصال برئيس الوزراء الأرميني "باشينيان" لإطلاعه على نتائج محادثاته في "باكو"، وهو بذلك يريد بـ"براغماتيته" المعهودة أن يطرح على "يريفان" بديلاً أكثر أماناً لها من تقاربها مع الغرب.

في الختام، لا بد من التأكيد أن كل خطط بوتين ومشاريعه سواء في القوقاز أو أوراسيا وفي عموم آسيا تتوقف بشكل رئيسي وبالدرجة الأولى على تعاونه مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو أمر تدركه موسكو جيداً، وكذلك تدركه طهران، لذلك فإنه من المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة مزيداً من التقارب والشراكة الإستراتيجية بين إيران وروسيا، وصولاً إلى التحالف الإستراتيجي الذي تفرضه طبيعة الصراع العالمي والانتقال إلى عالم جديد متعدد القطبية وبعيد عن الهيمنة الغربية، وهذا بالضرورة يستوجب المزيد من تطوير العلاقات بين طهران و"باكو" والانتقال بها إلى مستوى جديد، ولعل القيادة الإيرانية كانت حريصة طوال الأشهر الفائتة على تحقيق ذلك والعمل عليه، وكانت حريصة على تفويت الفرصة على خصومها وأعدائها الذين جهدوا من خلال أساليب متعددة لخلق حالة دائمة من التوتر بين البلدين.

روسيافلاديمير بوتينأذربيجانأوكرانيا

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة
بوتين: السنوات الـ20 المقبلة ستكون أكثر صعوبة
بوتين: السنوات الـ20 المقبلة ستكون أكثر صعوبة
موسكو: الولايات المتحدة دولة غير صديقة.. بوتين قد لا يهنّئ ترامب بفوزه 
موسكو: الولايات المتحدة دولة غير صديقة.. بوتين قد لا يهنّئ ترامب بفوزه 
زاخاروفا: النظام الانتخابي الأميركي "ضرب من الخدع"
زاخاروفا: النظام الانتخابي الأميركي "ضرب من الخدع"
روسيا وإيران بصدد توقيع معاهدة شراكة استراتيجية شاملة تشمل تعزيز التعاون الدفاعي
روسيا وإيران بصدد توقيع معاهدة شراكة استراتيجية شاملة تشمل تعزيز التعاون الدفاعي
بوتين: الجيش الروسي حاصر القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك 
بوتين: الجيش الروسي حاصر القوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك 
بوتين: يجب تصحيح الظلم التاريخي في الأراضي الفلسطينية لاستعادة "السلام" في المنطقة 
بوتين: يجب تصحيح الظلم التاريخي في الأراضي الفلسطينية لاستعادة "السلام" في المنطقة 
بزشكيان من قمة "بريكس": للحد من هيمنة الدولار.. ونزع فتيل التوّتر الإقليمي
بزشكيان من قمة "بريكس": للحد من هيمنة الدولار.. ونزع فتيل التوّتر الإقليمي
قمة "بريكس" تنطلق في روسيا.. نحو زيادة التجارة بالعملات الوطنية
قمة "بريكس" تنطلق في روسيا.. نحو زيادة التجارة بالعملات الوطنية
بوتين يترأس وفدًا في زيارة رسمية في أذربيجان
بوتين يترأس وفدًا في زيارة رسمية في أذربيجان
مقابلة لـ"العهد" مع وزير الدفاع الأرميني السابق أرشاك كارابتيان (2 / 2)
مقابلة لـ"العهد" مع وزير الدفاع الأرميني السابق أرشاك كارابتيان (2 / 2)
مقابلة لـ"العهد" مع وزير الدفاع الأرميني السابق أرشاك كارابتيان (1 / 2)
مقابلة لـ"العهد" مع وزير الدفاع الأرميني السابق أرشاك كارابتيان (1 / 2)
تطور العلاقات الإيرانية ــ الأذربيجانية.. صفعة جديدة في وجه الغرب الجماعي
تطور العلاقات الإيرانية ــ الأذربيجانية.. صفعة جديدة في وجه الغرب الجماعي
طهران تعلن عن ربط كهربائي بين إيران وروسيا وآذربيجان
طهران تعلن عن ربط كهربائي بين إيران وروسيا وآذربيجان
250 عسكريًا أوكرانيًا في إدلب يدرّبون الإرهابيين على تصنيع المسيّرات
250 عسكريًا أوكرانيًا في إدلب يدرّبون الإرهابيين على تصنيع المسيّرات
هجوم روسي بالطائرات المسيّرة يستهدف كييف
هجوم روسي بالطائرات المسيّرة يستهدف كييف
نيبينزيا: رفع القيود المفروضة على الأسلحة يعني أن "الناتو" بدأ حربًا مباشرة مع روسيا
نيبينزيا: رفع القيود المفروضة على الأسلحة يعني أن "الناتو" بدأ حربًا مباشرة مع روسيا
روسيا تحرّر 10 بلدات في مقاطعة كورسك خلال يوميْن
روسيا تحرّر 10 بلدات في مقاطعة كورسك خلال يوميْن