طوفان الأقصى
تحولات عقيدة جيش الاحتلال بين 2006 و2023
مقصلة تغيير وضعية جيش الاحتلال الصهيوني على وقع ارتدادات حرب تموز 2006، طيّرت رؤوس كبار قادته وجنرالاته، ونسفت مرتكزات عقيدته العسكرية الهجومية - عقيدة بن غوريون - القائمة على أساس القتال على أراضي الآخرين، بأذرعها الثلاث: الردع والحسم والإنذار المبكر.
عقم تلك العقيدة القتالية بمواجهة حزب الله، دفع جيش العدوّ بعد الحرب مباشرة للبحث عن كيفية تطويرها وفقًا لبيئة تهديدات الجبهة الداخلية المستجدة، فإنشغلت منظومته الأمنية والعسكرية بمراجعاتها، ليثبت لها على ضوء الميدان أن نظريات الحرب والعقائد القتالية الكلاسيكية صارت من العقود الماضية ولم تعد صالحة للوضع العسكري الجديد، الذي أصبحت فيه المواجهات مع تنظيمات "لادولتية"، في ظل تغيّرات وتحولات جيوبوليتيكية كبيرة في المنطقة، وبروز موازين قوى إقليمية ودولية جديدة.
منذ حرب تموز 2006 تناوب على قيادة جيش العدوّ خمسة رؤساء أركان، كلّ منهم كانت له نظرته المختلفة عن الآخر حول كيفية تطوير الجيش وعقيدته القتالية، فكان للذراع العسكري الآتي منها وما تولاه من مهام سابقة دور كبير في تحديد هوية الجيش في عهده ومسار استعداداته للحروب المقبلة، إلى حد بات فيه لكل رئيس أركان جديد استراتيجية جديدة للحرب المقبلة وعقيدة عسكرية باسمه كـ"نظرية أشكنازي العسكرية" و"عقيدة أيزنكوت" أو "عقيدة الضاحية"، و"عقيدة كوخافي" أو "عقيدة النصر".
بعد الحرب وضع رئيس الأركان غابي أشكنازي، خطّة "تيفين" (2008 - 2012)، وكان عمادها تقليل الاعتماد المفرط على سلاح الجو، وتدعيم الذراع البري وإعادة اعتباره بعد حرب تموز، كي يتمكّن من "الحسم البري السريع" في الحروب المقبلة، وبذلك جاءت خطة أشكنازي كرد فعل واضح على نظرية سلفه دان حالوتس خلال الحرب والتي ارتكزت على "الحسم الجوي"، كما شكلت الخطة إقرارًا فاضحًا بفشل سلاحي الجو والبر في تلك الحرب، وبمعنى آخر اعترافًا ضمنيًّا بسقوط نظرية القضاء على حزب الله من الجو، وبعجز جيش الاحتلال عن تحقيق انتصار بري.
التحولات الجيوبوليتيكية التي غيّرت مسار التهديدات المحيطة بكيان الاحتلال خلال ما سمي بـ"الربيع العربي"، دفعت بخلف أشكنازي بيني غانتس للاستنتاج بأن "الواقع أقوى من كلّ العقائد"، وهو ما أوصى به خلفه أيزنكوت بعدما أورثه الجيش فوق صفائح المنطقة المتحركة، فكان لأيزنكوت وجهة نظر ثانية عبّر عنها بما أسماها "عقيدة الضاحية" ووضع بصماته على خطّة عسكرية خمسية (2015 - 2020) أسماها "جدعون" لإعادة هيكلة بنية "الجيش" من جديد (وثيقة 33 صفحة بعنوان "استراتيجية قوات "الدفاع" "الإسرائيلية"" نشرها جيش العدوّ في آب/أغسطس 2015)، سعت لتعزيز دور سلاح المشاة في العقيدة القتالية، إذ أجبرت البيئة الاستراتيجية والعملياتية الجديدة "الجيش الإسرائيلي" على إعادة تعريف الركائز التقليدية للاستراتيجية العسكرية (الردع، الإنذار المبكّر والحسم العسكري)، وإضافة ركيزة رابعة، هي: "الدفاع".
بعد آيزنكوت أتى أفيف كوخافي بعقيدة بديلة عن العقيدة التقليدية أسماها "عقيدة النصر"، وأوجزها بعبارة: "جيش ناجع، فتّاك، وذكي"، كما بلور خطة "تنوفا/الزخم" لاستكمال جهوزية "الجيش" وإحداث صدمة كبرى لدى الأعداء عبر مضاعفة قوة سلاح الجو، وترميم القوات البرية، وإشراك كلّ أذرع "الجيش" بشكل متكامل منذ اللحظة الأولى من المعركة، من خلال دمج العنصر البشري والتكنولوجي وتحقيق تنسيق عالٍ وفوري وسريع بين سلاح الجو وسلاح المشاة والاستخبارات.
لاحقًا عُين هرتسي هاليفي رئيسًا للأركان مكان كوخافي لكونه يؤمن بعقيدة ربط وبناء قوة قتالية متعددة الأبعاد بالوقت نفسه، والذي يمكن رسم ملامح عقيدته العسكرية من دراسة نشرتها المجلة المهنية لجيش العدو بعنوان "الدفاع متعدد الأبعاد"، ركزت فيها على البعد الدفاعي، وأهمية المعارك الدفاعية على أساس أن المكاسب الهجومية للعدو تقزّم الإنجازات الهجومية لجيش الاحتلال.
تعديلات وتطويرات عقيدة العدوّ القتالية المتتالية، جاءت بمثابة إقرار جلي وواضح بأن جيش الاحتلال أصيب بمقتل في تلك العقيدة، وأن حرب تموز 2006، دفعته بعد 58 عامًا لإعادة النظر بها لكونها إن كانت ناجعة بمواجهة حروب تقليدية كحربي 1967 و1973، لم تعد صالحة بمواجهة حركات المقاومة في لبنان وفلسطين. من هنا راح العدوّ يعدل بها باستمرار إلى جانب تطوير قدراته التسليحية. لكن كلّ النظريات والعقائد الجديدة التي جرى تطويرها بعد حرب تموز، أنتجت نظرية واحدة لا غير ما يمكن تسميتها عقيدة "التقوقع الدفاعي" التي ركزت على التمترس خلف جدران إسمنتية شاهقة على الحدود وعلى بناء وتطوير منظومات دفاعية اعتراضية للصواريخ جنّد لها العدوّ مليارات الدولارات واستعان بخبراء ومصانع عسكرية أميركية علّه يبني جدارًا جويًّا، بهدف إبعاد شبح صواريخ المقاومة التي حوّلت جبهته الداخلية ومستوطناتها إلى خاصرة ضعيفة، وإلى عبء على أمن الاحتلال.
جاء طوفان الأقصى ليشكّل أول اختبار ميداني لكل تلك النظريات والعقائد القتالية المستحدثة التي نتجت عن بنات أفكار رؤوساء أركان جيش العدوّ بعد حرب تموز 2006؛ فاليوم يطرح السؤال: أين نظرية الحرب السريعة الخاطفة والحاسمة التي نظّر لها العدو، ونحن في الشهر العاشر من بدء العدوان الصهيوني على غزّة، وبعدما أظهرت الأحداث تردّده وتخبطه في قرارات الحرب وعدم قدرته على سلوك طريقها بمواجهة حزب الله، سيما وأن اضطراره إلى سحب قواته من شمال غزّة إلى جنوبها والى رفح يعني أن قدراته مُست وباتت غير كافية ما أثر على وتيرة تسريع أو إبطاء عملياته العسكرية. فكيف لجيش كهذا بلا قرارات ولا قدرات أن يشن حربًا خاطفة وحاسمة يهول بها يوميًا على لبنان؟!.
ما حل بجيش الاحتلال بعد طوفان الأقصى ليس صادرًا عن لجان تحقيق أو مدونًا في تقارير مراقب جيش الاحتلال "ومراقب الدولة" أو "مفوض شكاوى الجيش" حول الثغرات التي تعتري جهوزيته. لقد مسته لعنة أكتوبر 2023 فانهارت عقيدته العسكرية، ومركباتها: احتكار قرار شن الحرب، ومباغتة الأعداء، والقدرة على احتلال أراضيهم والبقاء فيها (العقيدة القتالية الكلاسيكية وضعت لحرب بين جيوش نظامية)، والقدرة على حسم مجريات القتال (تنظيمات المقاومة اللادولتيّة أفقدت العدوّ الردع والحسم)، أما التحول الأهم في عملية طوفان الأقصى بعد تآكل الردع لدى العدو، فتمثل بنقل المقاومة المعركة إلى أرض العدوّ ليفقد ركن عقيدته الكلاسيكية الثالث أي الإنذار المبكر يوم فشل باكتشاف عملية حماس قبل وقوعها (فشل الإنذار الاستخباري والفشل العملياتي).
حرب تموز 2006طوفان الأقصىجيش العدو الاسرائيلي