آراء وتحليلات
مصر وأثيوبيا.. التجاذب على ضفتي الأزمة السودانية
على الرغم من استمرار الصراع الداخلي لمدة تزيد عن أربعة عشر شهرًا، والذي كلف السودان- حتّى إعداد هذا المقال- أكثر من 15 ألف قتيل، و11 مليون نازح، وما يزيد عن 3 مليون لاجئ فروا إلى دول الجوار وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين، إضافة إلى خسائر مادية تقدر بنحو 100 مليار دولار بسبب دمار البنى الاقتصادية والاجتماعية ومؤسسات العمل والتشغيل والانتاج، إلا أن القوى المتصارعة والفواعل الإقليمية المؤثرة والمجاورة، لم تستطع إحداث خرق في طبيعة هذا الصراع لأسباب موضوعية عدة، وأبرزها:
- طبيعة الصراع القائم على السيطرة والهيمنة والاستفراد بالسلطة، ورفض مبدأ التشاركية السياسية.
- تحويل طبيعة هذا الصراع وتغذيته بعوامل عرقية وإثنية وقبلية، أسهمت في ديمومة الصراع، وعقّدت من مسارات البحث عن الحلول الدبلوماسية والسياسية.
- التدخلات الإقليمية والدولية المنقسمة في اصطفافاتها السياسية والعسكرية بين طرفي النزاع من خلال تزويدهما بالأسلحة ومنحهما الغطاء السياسي والإيدولوجي، ولو بشكل غير معلن، حيث تتمكّن هذه القوى من ترجمة ذلك لاحقًا، من خلال انتصار الطرف المدعوم من قبلها بإنجاز عسكري ينعكس على المسار السياسي، يعدّ بمثابة توسيع لنفوذها، وهو ما يفسر عدم استكمال مسار اتفاق جدة "الأميركي - السعودي".
- استغلال الأزمة السودانية ومفاعليها السلبية من فوضى وانتشار السلاح والإرهاب وملف اللاجئيين، لإثقال بعض الدول المجاورة للسودان بمشكلات وتحديات داخلية، ولا سيما استهداف الأمن القومي المصري بمختلف أبعاده الأمنية والسياسية والعسكرية والصحية والغذائية والاجتماعية، من قبل فواعل إقليمية في مقدمتها أثيوبيا والكيان الإسرائيلي ودولية متمثلة بالولايات المتحدة الأميركية، لتحقيق أهداف جيواستراتيجية في الخارطة الإقليمية من خلال إضعاف الموقف المصري واستنزاف مقوماته.
هذه النقطة الأخيرة، لعلها تفسر سبب ودوافع كلّ من جمهورية مصر العربية وأثيوبيا، لطرح مبادرات لحل الأزمة السودانية، ولا سيما أن هاتين الدولتين تعدان أكثر القوى التي يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في احتواء العنف والصراع في السودان، بالرغم من تعدد المبادرات والطروحات التي قدمت مؤخرًا، والتي تمثلت أبرزها في مبادرة جنوب السودان للوساطة بين طرفي النزاع. إلا أن هذه الوساطة رفضها الجيش السوداني وقائده عبد الفتاح البرهان، بسبب استقبال جوبا لمستشار قائد قوات الدعم السريع في حزيران 2023م وتوافر معلومات عن الدعم المقدم من جنوب السودان لقوات الدعم السريع بقيادة محمد دقلو المعروف بـ "حميدتي"ز كما أن هناك الوساطة الكينية التي لم ترَ النور، ورفضتها الحكومة السودانية بسبب "عدم حياد الرئيس الكيني"، وصداقته مع قائد قوات الدعم السريع ومحاولة الرئيس الكيني إحضار حميدتي إلى قمة "إيغاد" الرباعية لتمثيل السودان.
لذلك يعد الدور والتأثير المصري والأثيوبي الأكثر فاعلية في الساحة السودانية، كون الدولتين لديهما ما يؤهلهما. لذلك في ظل غياب المساعي الدولية، سواء من حيث مجاورتهما للسودان والتداخل العائلي والعشائري والعرقي بين مكونات السودان مع الدولتين أم من حيث العلاقة التي تربطهما بمكونات الداخل السوداني السياسية والعسكرية وامتلاكهما لبعض أدوات التأثير، ما يجعل كلّ من أديس أبابا والقاهرة خصمين لدودين في الساحة السودانية، وهو ما يفسر تناقض المواقف التي برزت خلال الأيام السابقة. ففي الوقت الذي نجحت فيه مصر بعقد مؤتمر، ضمّ قوى وتيارات سياسية وعسكرية سودانية في 6 و7 من الشهر الجاري في القاهرة، وصل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في التاسع من الشهر ذاته إلى مدينة بورتسودان، في أول زيارة له منذ اندلاع المواجهات المسلحة في السودان في منتصف نيسان 2023م، للقاء البرهان وحميدتي وطرح المبادرة الأثيوبية، بعد تعمّد الأخيرة عدم حضورها لمؤتمر القاهرة بالرغم من توجيه مصر دعوة رسمية لها. سبق ذلك بأيام التئام أول اجتماعات اللجنة الرباعية الإفريقية في "أديس أبابا"، والتي ضمت كلّ من إثيوبيا وجيبوتي وجنوب السودان وكينيا وتمثيل أميركي، لبحث مسألة السودان من دون ضم مصر لها، أو الإشارة للمؤتمر الذي كانت تحضر له مصر.
للمفارقة، إن كلّ من مصر وإثيوبيا، تسند لنفسها أحقية تأدية دور الوساطة في السودان أكثر من غيرها، فأديس أبابا أسهمت بشكل رئيسي في هندسة مرحلة ما بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير العام 2019، من خلال تولي "آبي أحمد" إدارة الاجتماعات والمفاوضات بين المدنيين والعسكريين، حتّى بات عرّاب ما عُرف بـ"الوثيقة الدستورية" التي أفضت عن اتفاق الشراكة السياسية بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير لقيادة المرحلة الانتقالية في السودان، لتصبح بذلك أثيوبيا أكثر الدول قربًا من السودان والقوى السياسية الحاكمة آنذاك، إلا أن تبني أثيوبيا لموقف داعم ومؤيد لقوات الدعم السريع وقيادتها تحركات إقليمية لمحاصرة الحكومة السودانية وعدّها غير مؤهلة للحكم بعد اندلاع الأزمة جعلت منها أبرز خصوم السودان.
أما مصر التي فشلت في تأدية دور مؤثر بعد العام 2019م، نتيجة وقوفها بشكل كامل إلى جانب القيادة العسكرية في السودان لعدم تسليم السلطة، يبدو أنها تعلمت من خطأها السابق، من خلال تشبيك علاقتها مع مكونات المجتمع السودانيكافة، اليوم، وهو ما تجلى بحضور معظم هذه المكونات لمؤتمر القاهرة، واستناد مبادرتها على حياد جميع الأطراف الخارجية تجاه الأزمة، حيث لا تخل بالتوازنات على الأطراف المتصارعة، وتسمح ببدء جولة التفاوض وسط مناخ جديد غير منقسم المصالح. كما يتوفر عامل آخر يجعل السودانيين أقرب للقبول بالوساطة المصرية، والمتمثل بالخطر المشترك الذي تسببه أثيوبيا للأمن المائي لكل الدولتين بفعل استكمال بناء "سد النهضة" وملؤه بالكامل، إلى جانب المخاطر المشتركة نتيجة استمرار تدفق اللاجئين والسلاح وتغذية الإرهاب لاستهداف الأمني القومي في السودان ومصر، ولا سيما أن أبرز محدّدات الأمن القومي المصري يستند لمقاربة المجال الحيوي الذي يعدّ السودان امتدادًا له.
نجاح مصر في عقد مؤتمر جمع طيف واسع من أفرقاء الصراع في السودان في ظل مساعي أثيوبيا لإعادة تأدية دور حيوي لها في هذه الجغرافية لتحقيق أهداف جيواستراتيجية، لا يعني نجاح القاهرة ومؤتمرها في حل الأزمة السودانية أو وضع مسار ضامن لحلها، إن لم تنجح هذه الوساطة من إيجاد آلية تلزم بها الأطراف المتحاربة لوقف العمليات العسكرية، والبدء في مفاوضات جادة للوصول إلى وقف فوري ومستدام لإطلاق النار، تمهد لوصول المساعدات الإنسانية داخل السودان، تضمن عودة النازحين واللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وصولًا لإطلاق مسار سياسي يكون مدعومًا من قوى وفواعل إقليمية ودولية، لضمان إخراج السودان من مستنقع الدماء الذي تغرق فيه اليوم.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024