طوفان الأقصى
هل تكون الاحتجاجات في الجامعات الأميركية نواةً لتغيير قادم؟
شكّلت الاحتجاجات الطلابية داخل الجامعات الأميركية واحدة من أهم العوامل المربكة والمؤثرة في الداخل الأميركي والذي أرخى بظلاله على الطبقة السياسية بشقيها الديمقراطي والجمهوري.
انطلقت الاحتجاجات من جامعة كولومبيا في ولاية نيويورك في أبريل الماضي احتجاجًا على الحرب "الإسرائيلية" الوحشية على غزّة، والإبادة الجماعية المرتكبة من قبل جيش العدو "الإسرائيلي" بحق الفلسطينيين، ثمّ اتسعت لتشمل أكثر من 60 جامعة على امتداد الولايات الأميركية من الشرق للغرب، ومن الشمال للجنوب مرورًا بولايات الوسط الأميركي.
كان الإرباك الأكبر من نصيب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحزب الديمقراطي الذي يمثله نتيجة الدعم اللامحدود الذي تقدمه تلك الإدارة لـ"إسرائيل" على كلّ الأصعدة، والذي وصل إلى حدّ التدخل المباشر في الحرب وخاصة في الأشهر الأولى منها قبل أن تلجأ تلك الإدارة لأساليب التضليل الإعلامي للتستر على مشاركتها في العدوان على غزّة.
بدا هذا التأثير والإرباك واضحًا للمرة الأولى من خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، حيث عبّر الكثير من المسجلين على قوائم الحزب عن اعتراضهم على موقف إدارة بايدن المؤيد لحرب الإبادة التي تمارسها "إسرائيل" أو المتقاعس عن اتّخاذ قرارات واضحة وجريئة لإيقافها، من خلال قرار امتناعهم عن التصويت لصالح بايدن في انتخابات الحزب الديمقراطي التمهيدية، واستبدلوا ذلك بخيار (غير ملتزم) والذي يُقصد به أنهم لن يلتزموا بتأييد بايدن في الانتخابات على اعتباره المرشح الوحيد للحزب الديمقراطي.
وفي وقت قصير تحوّل خيار "غير ملتزم" إلى حملة شبه منظمة انتشرت بسرعة في الولايات الأميركية خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وانطلقت الحملة من ولاية ميتشيغان التي شكلت مفاجأة مذهلة، فقد حصلت الحملة على أكثر من 100 ألف صوت ديمقراطي صوتوا بـ"غير ملتزم" بدلاً من إعطاء صوتهم لبايدن في الانتخابات التمهيدية للحزب، وهو ما نسبته 13% من الأصوات.
انتقلت الحملة إلى ولايات أخرى وحققت نتاىج مهمّة أيضًا، ففي ولاية مينيسوتا اختار نحو 19 % من الناخبين الديمقراطيين عدم الالتزام، وفي ولاية واشنطن حصلت حركة "غير ملتزم" على قرابة 7.4 في المئة من الأصوات، ثم انسحب الأمر على ولايات أخرى وبنسب متفاوتة حققتها الحملة التي رفعت شعار الاحتجاج على حرب الإبادة في غزّة.
ولعل أكثر ما جعل بايدن والديمقراطيين يشعرون بالخطر، هو أن الولايات المتأرجحة شهدت نسباً مرتفعة من خيار "غير ملتزم"، وهي الولايات التي غالبًا ما يكون لها الدور الحاسم والأبرز في تحديد الفائز في الانتخابات الرئاسية، علمًا أن تلك الولايات صوتت بمعظمهما لصالح بايدن في انتخابات 2020 الأخيرة.
وكنتيجة لذلك اعتمدت إدارة بايدن نهجًا متنوعًا ومتناقضًا لمعالجة تلك الظاهرة التي باتت تهدّد حظوظ الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة، وشمل هذا النهج بداية القيام بحملة اعتقالات واسعة طالت طلاب وأساتذة الجامعات، حيث تجاوز عدد المعتقلين 3000 خلال شهر واحد، ولاحقًا تمت مهاجمة مخيمات الاعتصام والاحتجاج داخل حرم الجامعات وتفكيكها بالقوّة، وفي كثير من الأحيان جرى الاعتداء على الطلاب والأساتذة بقسوة ووحشية من قبل قوات الشرطة، كما تم اتّخاذ قرارات الفصل بحق العديد من طلاب الجامعات بحجة معاداة السامية، وجرى إقرار تشريع عبر الكونغرس يتضمن تعديلًا على قوانين معاداة السامية يمنع طلاب الجامعات من التعبير عن آرائهم ضدّ الإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" وتدعمها واشنطن، وكان الهدف من كلّ تلك الإجراءات هو الترهيب لمنع الاحتجاجات من التمدد أكثر فأكثر، ولمنع حركة "غير ملتزم" من التحول إلى ظاهرة سياسية ذات تأثير انقلابي على صعيد الوعي الجمعي.
وعلى صعيد التضليل السياسي والإعلامي، حرصت إدارة بايدن على تعديل خطابها المعلن من الحرب على غزّة، وتسويق نفسها كراعية للحل السياسي الذي يدعو لوقف إطلاق النار، لكنّها كانت أشد حرصًا على إظهار موقفها الداعم لـ"إسرائيل" تجنبًا لإغضاب اللوبي اليهودي في ظل الضغوط التي تتعرض لها من الجمهوريين الذين استغلوا الاحتجاجات لاتهام إدارة بايدن بالمسؤولية عنها، وبالتقاعس في دعم "إسرائيل". وبموازاة ذلك حرصت وسائل الإعلام الأميركية على تشويه صورة الاحتجاجات عبر اتهام المشاركين فيها بالتبعية لإيران تارةً، ولحركة حماس تارة أخرى، وتصوير "الإسرائيليين" كضحايا لا يجوز تركهم وحدهم.
حتّى اليوم تتضارب الآراء حول تأثير الاحتجاجات الطلابية على الانتخابات الأميركية ونتائجها، ويرى العديد من مسؤولي إدارة بايدن بأن التأثير سيكون ضعيفًا ونصحوا بايدن بالابتعاد عن الحديث عن تلك الاحتجاجات وترك الأمر للقضاء والكونغرس وقوات الأمن الفيدرالية، واعتماد خطاب مبهم حولها، وهو ما بدا واضحًا عندما قال بايدن بأنه "يؤيد حق التعبير عن الرأي لكنّه سيقف ضدّ معاداة السامية". ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن قضية فلسطين وحرب غزّة ليست من أولويات الناخب الأميركي وخاصة الشباب الذين يركزون اهتمامهم على قضايا البطالة والتضخم والهجرة وحمل السلاح وغيرها.
بالمقابل يعارض مسؤولون آخرون في إدارة بايدن وبعض المستقلين هذا الرأي ويعتقدون بأن الاحتجاجات تشكّل عاملًا مهمًا ومؤثرًا في الانتخابات، ويستشهد هؤلاء بتجارب سابقة كالاحتجاجات التي اندلعت عقب مقتل "فلويد" وأثرت سلبًا على الرئيس السابق ترامب، بينما أطلقت تحذيرات شديدة من خبراء إستراتيجيين من الحزب الديمقراطي تحذر من أن سوء الحكم على الوضع قد يكلف بايدن غاليًا في سباق متقارب مع منافسه الجمهوري دونالد ترامب.
في الختام، لا بد من القول، إن الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية توحي بتحول داخل المجتمع الأميركي، وخاصة في جيل الشباب وهو ما سيؤدي حكمًا إلى نشوء صراع داخلي مستقبلي حول سياسة واشنطن الخارجية، فالتطور التكنولوجي والرقمي كان له الدور الأبرز في وصول الحقائق إلى جيل الشباب الذي اكتشف وجود فجوة واسعة بينه وبين النخب السياسية المسيطرة، ولا شك فإن نواة تغيير مجتمعي قد بدأت وأنها ستستمر وتتحول في يوم ما إلى تغيير سياسي.