طوفان الأقصى
أميركا بعد حرب غزّة: المكانة والخيارات
تتجاوز معركة "طوفان الأقصى" شهرها الثامن لتفتح الباب على تساؤلات كثيرة في ظل التحولات التي تشهدها المنطقة والعالم، من بينها "أين أصبحت القوّة الأميركية اليوم؟".
بعد وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض راهن بعض المحللين والمتابعين على إعادة بايدن موقع القيادة العالمية إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد حكم سلفه دونالد ترامب لسنوات أربع. وعلى الرغم من اللغة المختلفة التي تحدث بها بايدن فإنّه وباعتراف أعضاء في الكونغرس الأميركي وبعض السياسيين في الداخل، لم ينجح في حلّ المشكلات ولا في إعطاء الثقة لمن حوله، بل اكتفى في دعم الحلفاء كما فعل مع أوكرانيا وكيان العدو، والسعي لهزيمة الأعداء كما فعل مع الصين وروسيا، ولو على حساب الدخول في حروب تضرّ بسمعة الولايات المتحدة ومصالحها في العالم وفي الشرق الأوسط.
ففي نظرة سريعة على الأحداث خلال السنوات الأخيرة لا سيما في الشرق الأوسط، نجد أن الولايات المتحدة الأميركية التي أخذت على عاتقها في عهد الرئيس الحالي سياسة التهدئة وإنهاء النزاعات والحروب، لم تنجح في تطبيق ذلك بل أقحمت نفسها في حروب جديدة آخرها الحرب على قطاع غزّة وحماية الكيان المؤقت من ضربات محور المقاومة على أكثر من جبهة. وفي هذا السياق، يُحمّل أستاذ العلاقات الدولية في جامعة "هارفرد"، ستيفن والت، وهو أحد مؤلفَي كتاب "اللوبي "الإسرائيلي" والسياسة الخارجية الأميركية"، الولايات المتحدة الأميركية المسؤولية عن إشعال الشرق الأوسط ووصوله إلى حاله اليوم، معتبرًا أن "واشنطن وبعدما ساهمت في تصعيد الصراع في غزّة، حاولت إقناع "تل أبيب" بالتصرف بضبط النفس، سواء للحد من الضرر الذي يلحق بالمدنيين الفلسطينيين، أو لتقليل الضرر الذي يلحق بصورة الولايات المتحدة وسمعتها". ويصل والت في خلاصة استنتاجاته إلى "فشل هذه السياسة لأنّ أهدافها كانت متناقضةً بطبيعتها"، إذ إنّ منح "إسرائيل" الدعم غير المشروط لم يمنح قادتها سوى القليل من الحافز للاستجابة لنداءات الولايات المتحدة الداعية إلى ضبط النفس، وليس من المستغرب إذًا أن تتجاهل الحكومة "الإسرائيلية" هذه النداءات.
ويذهب بعضهم إلى توصيف التعاطي الأميركي مع حرب غزّة بأنه في منتهى التناقض، حيث تحاول الإدارة الأميركية ادّعاء الإنسانية والسعي لوقف الحرب في غزّة، فيما تستمر في دعم الكيان المؤقت وتزويده بالسلاح وإعطائه الضوء الأخضر لتوسعة عملياته العسكرية وقتل المزيد من الأبرياء وتنفيذ المجازر بحق أبناء قطاع غزّة مع محاربة المحاكم التي تسعى لإدانة هذه الإبادة والمجازر "الإسرائيلية"، وفرض العقوبات على قضاتها ومسؤوليها. ويستعرض ستيفن فيرتهايم، وهو مؤرخ ومحلل للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، في إطار حديثه عن أنّ الولايات المتحدة لم تعد تقود العالم، يستعرض كيف أنّ الحلفاء أنفسهم لا يتدفقون للوقوف إلى جانب أميركا، إذ إنّ بايدن لم يساعد في حل الأمور، وبدا في حرب غزّة، من خلال تصويره الصراع على أنه "معركة بين الديمقراطية والاستبداد"، كأنه يطلب من الدول الأخرى الاشتراك في حرب لا نهاية لها. ويذهب الكاتب الأميركي إلى اعتبار أنّ حرب غزّة جاءت في أسوأ وقت ممكن، ليردّ عليها بايدن بالاندفاع، وبدلًا من وضع شروط على "إسرائيل" بإيجاد إستراتيجية من شأنها حماية المدنيين مقابل إرسال المساعدات العسكرية لها، تعهد على الفور بدعم الحرب "الإسرائيلية" القاسية، ما يعني بحسب "فيرتهايم" أنّ الرئيس الأميركي اختار أن يتبع، وليس أن يقود. من هنا يمكن القول إنّ الولايات المتحدة الأميركية ظهرت ضعيفة وقمعية في الوقت نفسه، ورتبت على نفسها تكاليف باهظة على مستوى السمعة العالمية ومكانتها في العالم، حتّى بات السؤال هل تعود أميركا بعد نهاية الحرب أقوى أم أضعف؟ وأين ستكون مكانتها في الشرق الأوسط؟
قد يكون من المبكر الإجابة عن هذا السؤال، وإن كانت مجلة "فورين بولسي" الأميركية في إحدى مقالاتها راهنت على أنّ الشرق الأوسط من خلال العلاقات الأميركية القائمة في المنطقة، فضلًا عن ديناميكيات القوّة السائدة وأولويات السياسة الأميركية في الأعوام الأخيرة، سيخرج من أزمة غزّة، ولن يكون متباينًا كثيرًا عن وضعه قبلها، وأنّ السياسة الأميركية بعد الحرب قد لا تتعلق بكيفية عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، بقدر تعلقها بإدارة المسافة التي تحافظ على أمنها ونفوذها، في آن واحد.
وربطًا بما تقوله المجلة الأميركية، يذهب بعض المحللين والكتاب إلى اعتبار أنه بمجرد انتهاء الحرب، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تعود إلى سياستها المتبعة في إدارة الأزمات في المنطقة، لأنّ قدرة واشنطن على التأثير في الأحداث في المنطقة باتت محدودة للغاية، كما أنّ الإدارة الحالية تواجه تحديات إستراتيجية أكبر ليس فقط في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ولكن أيضًا في أوروبا. لا يعني ذلك أن نشهد انسحابًا أميركيًا شاملًا من المنطقة، وأساسًا لا يمكن للولايات المتحدة في الوقت الحالي أن تترك منطقة النفوذ فارغة، لكنّها قد تعمل على خفض توقعاتها بشأن الصفقات الكبرى التي توسطت فيها سابقًا والتي يمكن أن تُلزمها بخوض حرب لمصالحها الخاصة، أو تساهم عن غير قصد في سباق تسلح نووي في المنطقة.
ويذهب الكاتب الأميركي ستيفن فيرتهايم أبعد من ذلك في تقديره للموقف الذي يجب أن تتّخذه الإدارة الأميركية في هذا الإطار، معتبرًا أنّ "الانسحاب من أوروبا والشرق الأوسط من شأنه أن يحسن المشاركة الأميركية في المجالات الأكثر أهمية - في آسيا، ومن شأنه أن يوضح أن هدف أميركا ليس السعي إلى الهيمنة". بطبيعة الحال لن يكون الأمر الذي يطرحه فيرتهايم سهلًا على الولايات المتحدة، لكن البديل هو القيادة المنفردة التي تحوّل واشنطن إلى تابع متوتر ويضعها بشكل دائم على أعتاب الحرب في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا. فهل تريد أميركا الاستمرار بهذا النهج بعد التحولات الجديدة التي فرضتها معركة طوفان الأقصى في المنطقة؟