معركة أولي البأس

عيد المقاومة والتحرير

25  أيار بلا منظار!
27/05/2024

25 أيار بلا منظار!

طالت سهرته. تأخر هذا الهارب. لم يعد الكلام ممنوعًا. اخفضْ صوتك نحن في الكمين. حتّى بديهيات المهمّة أسقطها من حسابه. بات يشعر أنه سيد المكان فعلًا، سيد هذه الأودية الغائرة والأحراش الكثيفة. لم يعد فيها ما يخيف. صار نظره قويًا، حتّى إنه وضع المنظار الليلي في علبته، وأخذ يسرح بعينيه في الأفق، كأنه يستخدمهما للمرة الأولى. لم يكن بحاجة إلى طلب صفائهما قبيل الغروب، فهو مستعد للمهمة بكلّ جوارحه المتأهبة والمتحفزة.

سمع صوت دبيب أقدام. لعله هو. أنصتوا للصوت، مصدره منطقة الدواوير، المنطقة الفاصلة بين شقرا ووادي السلوقي. ثمّ تراءى لهم من بين الأشجار الكثيفة. رجل في العقد الخامس من العمر. استقبلوه ببرودة من دون أن يُشعروه بشيء. قال له أحدهم: الحمد لله على السلامة، فنعره بكتفه، كأنه يقول له: لا تبالغ، هذا البارحة كان يوجه مدفعيته نحونا.

صرنا نكمن لاستقبال العملاء، بعد أن كنا نكمن لقتلهم. حدّث القريبين منه، مع الحرص على أن لا يسمع "الضيف".
صدق حدسه، فقد كان هذا الوافد ضابط مدفعية في جيش لحد، ولطالما خدم في المواقع المواجهة لا سيما حولا، وكلنا يعلم كم لوعتنا مدفعية العملاء وقتلت منا ودمرت بيوتنا.

نحن نرافق – إذًا - واحدًا من جزارينا. ولكن، لا بد من رفقته وحسن وفادته، فالتكليف يقضي باستقبال العديد من العملاء الذي تواصلوا مع المقاومة لتسليم أنفسهم بعد أن أعلن سماحة الأمين العام لحزب الله فتح باب التوبة لهم قبل فوات الأوان.
لا بأس، هو تائب والله يحب التوابين. بلى، ويحب الصابرين؛ لقد بذلنا جهدًا كبيرًا في كبح إخوة عانوا من العملاء، هم وأهلهم وأقاربهم. تخيل نفسك مضطرًا للذود عن عميل ومواجهة أخ مجاهد وربما الاصطدام به، حتّى لا يتعرض لعميل خبره ظالمًا مضطهِدًا له ولأهله وأهل قريته طيلة سنين!

يحدّث أحد الإخوة عن تلك "اللحظات التاريخية"، حين كان ومعه أخ آخر ينقلان مجموعة من العملاء باتّجاه الأراضي المحررة سابقًا، وإذ به يجدُ عابرًا يسلم على عميل بحرارة، فما كان من الأخ إلا أن عاتبه على هذا التصرف، ولكن الرد الصاعق بأنه "أشرف مني ومنك"، لنكتشف لاحقًا أن بعض هؤلاء ما هم إلا مجاهدون، اخترقت المقاومة بهم العدوّ قبل سنين طويلة، مثلهم مثل الشهيد محمد قاسم من حولا، الذي استشهد أثناء وجوده في دورية للعملاء، فجرت المقاومة فيها عبوة، بسبب خطأ معلوماتي، وفق ما أعلن نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم آنذاك.

ها أنت أمام ما كنت تراه خيالًا رماديًا عن بعد، أو في أحسن حالاتك عبر منظار أثناء مهمّة رصد. تحاول أن تنسج خيوطًا بين ما كان وما هو كائن الآن أمامك. لقد زال الكابوس، وعبرنا بسلاسة الهواء والمياه، لقد دخلنا مواقعهم ولاحقنا فلولهم وفجرنا العبوات بالهاربين منهم وأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أسرى، رأيناهم بأم أعيننا صغارًا يستجدون الرحمة.

هل تعلم ما هو أعظم ما كان ولم نكن نعلم به؟ أن قائدنا الحاج رضوان كان مواكبًا لكل هذا، موجهًا ومديرًا ومنفذًا. يتابع كلّ الخطوات والتحركات. يعلم متى يتحرك العسكر، ومتى يتحرك المدنيون، وبأقل الخسائر، ومن دون ردات أفعال، كانت لو حصلت طبيعية في أي مكان في العالم. ولكن، لم يسجل حتّى إهانة عميل واحد. كان القرار بتسليمهم إلى الدولة، وليته لم يكن. يتحسر محدثي ويسأل: أيعقل أن نعفو عن العميل ونسمع أسيرًا محررًا يردّد: ليتني كنت عميلًا؟!

يهدئ مستمع مشترك من "زعله"، ويستعيد ما بذلته وسائل إعلام مغرضة من جهود كبيرة للتشويه والتحريض ذهبت أدراج عفو المقاومة. يقول هذا الأخ إن أجمل اللحظات كانت حين وصلوا إلى بوابة فاطمة وكانت طوابير سيارات العملاء هناك فارغة، وبعضها ما زالت محركاتها تعمل، وبعدها سمعنا كيف أذلهم الصهاينة قبل أن يسمحوا لهم بالدخول إلى فلسطين المحتلة، ورآهم العالم كله يقولون إنهم "انكحتوا" بلا شرف.

هذا المشهد عوض في نفسه كلّ ما كان يرويه الأهل عن تنكيل العملاء بهم على الحواجز والمعابر، من كفر تبنيت إلى باتر إلى بيت ياحون إلى حولا فضلًا على معتقل الخيام... لا أصدق؛ زال كلّ هذا بلحظة.

اللحظة الأجمل كانت عند موقع العباد، وأنت ترى الجنديّ الصهيوني، لا العملاء، ترى سيدهم خائفًا ينظر إليك من وراء ترسانة وتحصينات. يخاف من طفل يمد أصبعه عبر الأسلاك والشبك. هنا، لم أعد بحاجة إلى منظار، بل أزلت حتّى نظارتي التي أورثنيها المنظار. نظرت إليهم ولكنني لم أتبادل النظرات معهم، أصغيت إلى مسؤولي الذي حذرني من أن "حتّى النظر في عيونهم قد يعد تطبيعًا"!

بعدها، صار المشهد مألوفًا. ولكن الجنديّ الغادر حاول في تموز أن يعود إلى ما قبل 25 أيار، فاشتبكنا معه من مسافة صفر في محيبيب وميس الجبل وبنت جبيل وعيناتا وعيترون ومارون ومركبا وحولا والطيبة والعديسة ورب ثلاثين، ولم يمكث وعاد خائبًا إلى حصونه.

أما اليوم فالشعور العارم الذي يعتري محدثنا أن لا عودة إلى ذاك الزمان مهما كان. لقد أسسنا في تموز للهزيمة، ورأيناها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. رأينا 25 أيار/مايو أضعافًا مضاعفة. يرتاح في جلسته ويقول مطمئنًا كلّ نازح وصامد: لن تصدأ المفاتيح...

إقرأ المزيد في: عيد المقاومة والتحرير