معركة أولي البأس

عيد المقاومة والتحرير

تريد أن تكمل لعبتها
25/05/2024

تريد أن تكمل لعبتها

إلى أمل وإبراهيم وعُلا طيبين في علاهم... وميساء صابرة محتسبة.

انفضّت السهرة على أخبار في غاية الأهمية. سمع الفتيةُ الشبابَ الكبارَ في الحي يتناقلون تلك الأخبار، وظنوا أنها - كالعادة - شائعات وتمنيات. نام وهو يحيل تلك الأخبار أحلامًا جميلة. حلم بها. شاهدها ترفل بثوب زهري، ومن لونه تزين شعرها بوردة كبيرة.

سألها لِمَ هي غير محجبة، ولِمَ الوردة كبيرة إلى هذا الحد؟ إنها أكبر من مجرد "شَكْلة". تكاد تغطي كلّ رأسها، وتخفي جبهتها وعينيها.
هل ترين أمامك؟ سألها ممازحًا. قالت له حين تستيقظ من حلمك، ستعلم أنني أرى جيدًا. المهم عندي أن أرى وجهكَ يا حبيبي، وألا يحجبك عني شيء. على هذه العبارة الحانية، أفاق إبراهيم من حلمه، تذكّر أنها لم تعد هنا. لقد غادرته منذ زمن بعيد. لم تخترِ الرحيل، إنما هو موعد لا يُخلف. يحتار هو بين أن يفرح لها، أو يحتجّ على ظرف حرمه من شقيقة روحه!؟

وهو يتقلب في فراشه، متمسّكًا بلحافه، دافعًا به تلك النسمات الباردة التي جاد بها أيار، بعد ليالٍ حارّة، تداعب وجهه فتغريه بالعودة إلى النوم، سمع طرقًا عنيفًا على الباب، جعله ينتفض ويهرع إليه ليفتحه. إنهم رفاقه وقد جهّزوا أنفسهم ويدعونه إلى الانضمام إليهم.

لوين مبكّرين يا شباب؟ نادت أمه من داخل المنزل. أجاب أحدهم بكلام أقرب للصراخ: خلص تحررنا يا حجة. طالعين على "ُحُولَا ".
حدث نفسه: لم تكن مجرد شائعات، إنها تتحرر فعلًا.

لوييييين؟! صرخت أمه، فيما هو تراءت له تلك الطريق التي كان الوصول إليها مغامرة، لطالما خاضها مع رفاقه، سرًّا عن أهاليهم، فلو علموا بأنهم يقربون من تلك المنطقة المتطرّفة في القرية، لعاقبوهم أشد العقاب.

لم تصدق والدته ما تسمع من هؤلاء الفتية. ومع هذا تمسكت به ورجت رفاقه ألا يفعلوا. تذكرت أيامًا خواليَ. هنا، أمام هذا الباب، حيث يقف رفاق ابنها، اختُطفت أمل. كانوا صغارًا، يسمعون بما جرى مما يُتداول على ألسن الجيران وأهالي القرية عامةً.

كان الموت "الإسرائيلي" قد ترك أثره على الحارة التحتا، مثلما وزع نفسه على معظم حارات القرية. ولكن، هنا حطّ - ذات نهار عاشورائي - بإجرام مفرط. اختطفت القنابل المسمارية ابنتها الصغرى، وبترت ساق رفيقتها، وجرحت أخريات من بنات الحي.

تسمع دائمًا أن تلك القنابل "محرّمة دوليًا". من حرّمها حللّ لـ"إسرائيل" أن تحتلنا وتقتلنا وتسلبنا كلّ شيء، حتّى ضحكات أطفالنا الصاخبة.
كتم السلاح المحرم أنفاسنا. تنهدت، غصت، دمعت عيناها. "دخيلَك يا إمي يا إبراهيم، لا تروح ولا تجي". أتراه نزق الأطفال اللاهين أم شوق الكبار الحالمين، دفعه إلى المضيّ مع رفاقه، بعد أن هدّأوا والدته، وأكدوا لها أن العدوّ ينسحب، ودعوها كي تشغّل التلفاز وتشاهد بعينيها.

وصل مع رفاقه إلى الطريق المحرم عليهم طيلة سنوات، فوجدوه مكتظًّا بالناس والسيارات والأناشيد والزغاريد. إنهم أهالي حولا المهجرون منذ عشرات السنين، ومئات من أبناء قريته شقرا. كان المتجمهرون ينتظرون ساعة الصفر. ما زالت الأخبار تتوالى من حولا، بأن عناصر "جيش لحد" معتكفون في ساحتها وبعض مواقعها، كأنهم لم يصدقوا أن السيد "الإسرائيلي" نفذ ما يُتوقع، ويستبعدونه هم عنادًا وخيلاء.

غارة "إسرائيلية" على بعد مئات الأمتار. محاولة لثني الناس عن التقدم، أو لطمأنة هؤلاء العملاء لكي يصمدوا ويتصدوا للزاحفين.

كان الزحف عبارة عن حبّ جارف. لم يكن تكتيكًا خالصًا. حين حانت ساعة التقدم، اندفع الجميع سيرًا على الأقدام، ولكن الطريق إلى حولا صعودًا فيه من الصعوبة الكثير، لذا، كان حريًا به وبرفاقه أن يتعلقوا بأي آلية صاعدة. كان حظهم شاحنة صغيرة، لم يمانع سائقها أن ينقلهم معه. تكدسوا في صندوقها المكشوف. لفحت وجوهم الشمس كأنها تشرق من حولا، وداعبت وجوههم وشعورهم النسمات الباردة. كانت سرعة الشاحنة تزيدها قوة وجنونًا. وصلوا إلى حولا. هنا، لم يعرف كثيرون كيف يشبعون شوقهم، كيف يصِفون تحقق الأحلام، كيف يروون قصص الموت الآتي من المواقع، التي أنشأها العدوّ في أكثر من ناحية في القرية.

قفزت صورة أمل إلى رأس إبراهيم. هل يا ترى هنا كان يربض المدفع الذي التهم طفولتها؟ مكثوا في حولا نحوا ساعة. أغرتهم المغامرة أكثر. ما كان ممنوعًا ومحرمًا أصبح مباحًا، لا بل هو يُنتزع انتزاعًا. أراد سائق الشاحنة أن يكمل الطريق نحو ميس الجبل، مع توارد الأخبار عن تحريرها هي الأخرى. لم يتردّد إبراهيم ورفاقه في الذهاب معه. قطعوا الطريق بين حولا وميس، وعلى طولها كانت تتراءى لهم قريتهم شقرا. لقد انقلب المشهد؛ أصبحوا في قلب المشهد الرمادي، الذي كان يتراءى لهم منها، وها هي اليوم رمادية من قلب هذا المشهد.

عبروا فرحين، غير مصدقين ما يحدث. عاد إبراهيم إلى حلمه. خاف أن تأتي أمل إلى هنا، أن يراها أحد من دون حجاب. ولكنه تذكر الوردة التي غطت وجهها، فتبسم كأنه يسخر منها. حادثها. بحث عن وردة أكبر حجمًا، لعله يستر بها شعرها الكستنائي الجميل. تبسمت هي الأخرى، لم تعد تولي اهتمامًا لسخريته، لم تلحق به لكي تقتص منه، لم تصرخ في وجهه، إنها تمرح وتلهو.

أراد أن ينادي أمه ليطمئنها أنه بخير، وكذا أمل بخير. ها نحن نلهو هنا يا أمي. لم يعد للموت "الإسرائيلي" مكان يقصف منه بيتنا وحارتنا.
أتيت إليهم كي أرى ذلهم بعيني. ها أنا أطردهم، ها هم يُحتضرون..
اهتزت الشاحنة بشدة، وطردت ريح لاهبة نسمات أيار العليلة. تسمّر إبراهيم في مكانه. قفز رفاقه ذات اليمين وذات اليسار. صرخوا، نادوه. سمعهم ورآهم ولكنه لم يجب. احتضن تلك الشظية، أراد ألا تصيب أمل من جديد، فهو طمأن أمه أن الموت قد رحل إلى غير رجعة. أرادت أمل أن تكمل لعبتها. اشتاق إبراهيم إليها كثيرًا، لم يبالِ بالموت اللجوج. طوى يده واحتضنها، وأحنى رأسه على رأسها. رأوه يبتسم، فيما فجوة كبيرة أظهرت ما بداخل قلبه وحضنه.
لم يروا أمل. كانت مطمئنة إلى حضن شقيقها الوحيد، لا يحجبها عنه شيء!.  

إقرأ المزيد في: عيد المقاومة والتحرير

خبر عاجل