نقاط على الحروف
إيران التي لا نعرفها
منذ الحادثة الأليمة التي هزّت الجمهورية الإسلامية في إيران؛ أطلقت موجات الحزن الصادق والتعاطف المساند لها بين جماهير واسعة عبر العالمين العربي والإسلامي، تعرف قدر طهران وتعرف قد الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي، وتعرف دور الثورة الإسلامية في دعم حركات المقاومة، بالذات في فلسطين، ثمّ تواكب الحدث المزلزل في وسط عملية "طوفان الأقصى" المباركة.
من ناحية "التحقيق والبحث"؛ فإن أي كلام قبل أن تنهي طهران تحقيقاتها كافة، هو محض هراء. من الحماقة التعامل مع الحوادث التاريخية كأنها سلسلة من الصدف، ومن الجنون أيضًا رد كلّ حادث إلى مؤامرة خارجية تعبث بالأوطان. وعند نهاية التحقيقات؛ الجمهورية الإسلامية قادرة، وبكفاءة وحزم، أن تبني على الشيء مقتضاه، سواء بأن تتعلم درسًا أم تعطي الآخرين دروسها.
لكنّ النخب العربية، ومن ورائها النظم الرسمية والمنافقون وحملة مشاعل التنوير للغرب والمرجفون كلّهم قد استغلوا الحادثة في محاولة بائسة يائسة لتنفيث البخار عن محركات محور المقاومة، كما سبق أن هوجم حزب الله بما عرف بـ "غزوة العواميد"، بينما كان رجال الله ينفذون عملًا عسكريًا راقيًا وفذًا، لم تتصوره عقول العدوّ ولا فهم الصديق، هذه المرّة الهدف هو هزّ الثقة بإيران أو كسرها، عبر الترويج أنها دولة فاشلة وعلى الطراز القديم، سواء كانت الحادثة مدبرة أم قدرية.
يريد منا المنهزم العربي أن نستمر في ترديد أنشودة الهزيمة، فنحن فاشلون كسالى بالنسبة إلى بقية العالم، ولا نجيد حماية قادتنا. يريد هذا المهزوم داخليًا أن ننهزم أيضًا، وننسى عرض القوّة الإيراني المذهل في نيسان الماضي، حين غرّدت الصواريخ والمسيّرات فوق فلسطين المحتلة، لتفتح عصرًا جديدًا في المنطقة لم يعد الكيان وحده هو حائز "القوّة الإقليمية" فيه، ويقدم الدعم الفعّال لأطراف محور المقاومة في غزّة ولبنان واليمن والعراق التي تقاتل بشجاعة المؤمنين وصلابة الرجال منذ 229 يومًا.
هم كرهوا إيران؛ لأنها احتضنت المقاومة، وهم كرهوها لأنها كشفت عوراتهم أمام أنفسهم والعالم، هم كرهوها، وليس لذلك علاج في ما يبدو، إلا أنهم وجدوا في محاولة تحقيق الانتصار للصهيوني بديلًا عما يشعرون به من خزي وذلة.
السبب الوحيد الذي يدعو إلى اتّخاذ هكذا موقف هو تحقيق أهداف العدو وتمييع القضية وزرع الشك في صفوف أهل الحق والشرف والكرامة. ينسى هذا الغبي دائمًا أن الدماء ليست خسارة بالنسبة إلى المجاهدين، وأن خير طرائق الوصول هي الارتقاء، وأن الشهيد ليس جرحًا في جسد الأمة، وإنما هو تجديد لروحها ومدد من النور يمدها الله به، والشهداء القادة بالذات يمثلون أرقى ما في الضمير الإسلامي والعربي.
أتحفنا مارينز التحليل العربي بسرد ما يحفظونه ويقدسونه من طرق انتقال الرؤساء، جو بايدن ونتنياهو، وكيف أن العمليات المعقّدة شديدة السرية، والطائرات التي تتجاوز قيمتها مليار دولار، وفنون التخفي وتعتيم الطرق والحراسات الضخمة المكلفة هي الطريق الأمثل لتحقيق أمن الدول عبر ضمان حماية رؤسائها وقادتها، ليس في الدول المتقدمة فقط، في الدول العربية.. فإنّ تحرك "الحاكم" يصحبه قوات تساوي كتائب عسكرية كاملة من الحرس الجمهورية وعناصر المخابرات، وفي سبيل أمنه يقتني أحدث وأغلى السيارات. الرئيس المصري عبد الفتاح السّيسي، في افتتاح واحدة من مشروعاته الخيالية ولمناسبة تتويجه في مسرحية انتخابية، أقدم على عرض قوة لم يقم به هتلر يوم زيارته لفرنسا بعد هزيمتها، بالعشرات من الدراجات البخارية وأسطول السيارات المصفحة وإطلاق المدفعية طلقات احتفالية، وتقديم الطائرات العسكرية فقرات استعراضية في السماء.. موكب التتويج الأسطوري هذا في بلد يقول رئيسها بلسانه إنها "شبه دولة"، وهي الفعل تحولت على يديه إلى ذلك، بديون قياسية ونسب فقر لا تعرف التوقف، وبالارتزاق لأي طرف في الشرق الأوسط، حتّى لو كانت إمارة نفط، وقبل كلّ شيء بيع غزّة للعدو.
هل كان يمكن للرئيس الإيراني، وهو رئيس دولة كبيرة، أن ينتقل في أفخم طائرة، كما يفعل الملوك والحكام العرب؟ بالطبع كان يمكنه ذلك، فإيران دولة طوت، خلال الحصار الغربي الظالم عليها منذ قيام ثورتها، الزمن وحطمت القيود وتجاوزت كلّ جدران اليأس، ووصلت من قعر اليأس إلى الفضاء مستمسكة بدينها وبمبادئها، وعلى أيدي رجال وفقهم الله لخدمتها.
على سبيل المثال، لأن شرح كلّ مناحي التقدم الإيراني يحتاج كتبًا ومجلدات، هناك صناعات وسيطة تعدّ دليلًا وشاهدًا على مسيرة الاقتصاد الوطني، صناعة الصلب مثلًا كونها عنصرًا في كلّ الصناعات المدنية والعسكرية والتسلح والزراعة وإنتاج الآلات، تخبرنا أين تقف إيران اليوم بالضبط بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، تقول إحصائيات الاتحاد الدولي للصلب إن هناك 10 دول هي الأضخم إنتاجًا للصلب في العالم، وهي بالترتيب (الصين - الهند - اليابان - الولايات المتحدة - روسيا - كوريا الجنوبية - ألمانيا - البرازيل - إيران - تركيا)، هذه هي أكبر الاقتصاديات الصناعية في العالم بكلّ ثقة، وخلال العام 2023، فإن 3 دول فقط من العشرة رفعت معدلات إنتاجها من الصلب لتغطية احتياجاتها، إيران كانت الأولى في نسب الزيادة 14.6% متقدمةً في ذلك عن الصين التي زاد إنتاجها بمعدل 5.6% وكوريا الجنوبية التي رفعت سقف إنتاجها 1.1%.
هذه الدولة التي سابقت الصناعات العسكرية الروسية في مجال الطائرات المسيرة، بالرغم من كلّ ما تقوم به من أعباء الدعم والإسناد في الشرق الأوسط، إضافة إلى مهمة الدفاع عن أراضيها ومياهها الإقليمية، استطاعت أن تثبت كفاءة المسيّرة "شاهد" التي استعانت بها القوات الروسية خلال الحرب في أوكرانيا، وأن تضمن لنفسها مكانًا بين الكبار، الكبار فعلًا لا قولًا، من يصنعون سلاحهم ويزرعون غذائهم.
كان من الممكن للرئيس "رئيسي" أن يتمتع بما يتمتع به أي حاكم في المنطقة، خصوصًا أن ظروف إيران الاقتصادية، حتّى تحت الحصار، جيدة، لكن منذ اليوم الأول، ومنذ الصرخة الأولى ضدّ الاستكبار والهيمنة والظلم، كانت الثورة الإسلامية تحت قيادة الإمام العظيم روح الله الخميني (قدس)، ومن بعده آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، تضع فلسفة الإمام علي(ع) موضع التنفيذ في الواقع والحياة، ثروات الأمة للشعب، والرئيس أو القائد لا يتميّز هنا بعطاء زائد أو وضع خاص، إنها خصوصية الثورة وعظمتها وتفردها وطهارتها، السيد رئيسي اختار أن يكون خادمًا في مقام الإمام الرضا(ع) ثمّ اختار أن يخدم أمته وشعبه في كرسي الرئاسة، ربما لن نذكره إلا بكونه الرجل الذي كان أمينًا ونزيهًا، واختار هو أن يمضي للنهاية بعيدًا عن ترف الدنيا ودنسها.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
12/11/2024
جونسون بعد شيا: وكر الشرّ لا يهدأ
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024