نقاط على الحروف
تظاهرات الطلاب في الجامعات الأميركية عملية تراكمية يجب أن تدفع نحو التغيير السياسي
تفاجأ معظم الناس عندما انطلقت المظاهرات الأسبوعية التي امتلأت بها شوارع المدن الكبرى في العالم الغربي في أوروبا واستراليا وشمال أميركا. وكبر قلب الكثيرين عندما عمت المظاهرات والاعتصامات حرم الجامعات الأميركية من شمال أميركا حتّى جنوبها. لم يعد هناك خطوط حمر أمام المتظاهرين، والقصد خطوط مناطقية أو ولايتية، فأميركا لم تسطر خطوطًا حمرًا في غزّة وتركت الصهاينة يعيثون قتلًا وتدميرًا وتنكيلًا بالفلسطينيين، فقط لأنهم يطالبون بإطلاق الأسرى من السجون وفك الحصار عن غزّة. ولكن ردة الفعل في الشوارع الغربية وفي الجامعات الأميركية ليس مفاجئًا في حقيقية الأمر، فهو نتاج عمل متواصل ودؤوب منذ العام 1993 وحتّى اليوم، وظهوره على السطح بهذا الزخم ليس إلا دليل على الجهد والدأب في العمل المتراكم ما بين التحركات الطلابية وحركات المقاطعة حول العالم وصمود أهل فلسطين وغزّة اليوم.
في العام 2021، وعقب عملية سيف القدس، نشرنا في موقع العهد مقالًا بعنوان (خطر الحركات الطلابية في أميركا على "إسرائيل")، وشرحنا في ذلك المقال أمرًا هامًا لا بأس من إعادة التذكير به، وهو أن العمل في الجامعات الأميركية عبر "حركة مقاطعة "إسرائيل"" والمعروفة بـ BDS، أي "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، جاء تتويجًا لما ابتدأته المنظمات الطلابية في الجامعات منذ العام 1993. مع العلم، أن نشوء هذه الحركات في العالم الغربي في هذه المرحلة بالذات ليس وليد الصدفة. في العام 1990، اجتاح صدام حسين الرئيس السابق للعراق الكويت. أخرج هذا العمل العراق كواحد من أكبر الخاسرين، ولكن من دفع الثمن معه كان الفلسطينيون الذين غرّر بهم للوقوف إلى جانب صدام. وبعد تحرير الكويت طرد الكثير من الفلسطينيين وعائلاتهم، وتفرق معظم هؤلاء وهاجر العديد منهم إلى أوروبا وأميركا. ما حدث كان بمثابة نكبة ثانية، عاشها جيل الألفية الذين خرجوا من مدارسهم وبيوتهم قسرًا للمرة الثانية، مما أعاد تعزيز الفهم بمعنى النكبة الأولى في فلسطين وأنها البلد الوحيد الآمن لشعبه، وابتدأت حركة واسعة بين طلاب الجامعات في الغرب والتي وصلت أوجها في 2005، عندما تأسست حركة مقاطعة "إسرائيل".
الجيد أن بعضًا من المنظمات اليهودية عملت إلى جانب حركة المقاطعة، ومنها "الصوت اليهودي للسلام"، و"ناطوري كارتا"، والمنظمتان متهمتان بمعاداة السامية. وحتّى أن حركة المقاطعة اتّهمت بالمعاداة للسامية، وكان هناك تصريح منذ العام 2020 لبوب غودفيلو، المدير التنفيذي لمنظمة العفو الدولية، بعد استهداف وزارة الخارجية الأميركية لحركة المقاطعة، واتهامها بالتهمة "الأبشع" دوليًا وهي معاداة السامية! أن "استهداف وزارة الخارجية [الأميركية] مجموعات داعمة لاستخدام الوسائل السلمية، مثل المقاطعة، لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان ضدّ الفلسطينيين، باعتبارهم معادين للسامية، ينتهك حرية التعبير وبمثابة هدية لأولئك الذين يسعون إلى إسكات ومضايقة وترهيب وقمع المناضلين في مختلف مناطق العالم".
تنامى دور المنظمات الطلابية في كبرى الجامعات الأميركية، ووصل تأثيره عبر ممثلي الشعب الأميركي في الكونجرس الأميركي، وخاصة هؤلاء الذين عاشوا مرحلة تنامي الحركة الطلابية من أجل دعم فلسطين والذين حازوا على احترام وتقدير أساتذتهم في الجامعات بسبب مثابرتهم واستخدامهم العقل والطرق السلمية بحرفية عالية. في العام 2020 وقف بايدن في الكونغرس الأميركي مطالبًا بإعادة تمويل القبة الحديدية في الكيان، قائلًا إن من حق "إسرائيل" الدفاع عن نفسها، فوقفت في مقابله النائب عن نيويورك الكساندريا أوكاسيو كورتيز وسألت في خطاب حماسي في الكونغرس: "هل للفلسطينيين حق في البقاء؟ هل نصدق ذلك أم لا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نتحمل مسؤوليته أيضًا". كورتيز من أصل بورتوريكي ومن مواليد العام 1989، وهي من الجيل الألفي، الذي نشأ في الجامعات الأميركية، وهو يشهد حركة المنظمات الطلابية المدافعة عن حقوق الفلسطينيين والتي نادت بمقاطعة "إسرائيل" حتّى وقف الاحتلال والانتهاكات الإنسانية. بعد خطاب كورتيز وفي أقل من 24 ساعة أصدرت 150 منظمة مناصرة لحقوق الإنسان ومجموعات تعنى بالمناخ والقضايا الحقوقية وحقوق النساء والعدالة العرقية بيانًا مشتركًا دعت فيه لمناصرة الشعب الفلسطيني وإدانة عنف "الدولة الإسرائيلية".
بالطبع تكررت المواقف مع النائب الهان عمر. لم تقف اللحظة التاريخية في دعم فلسطين وقضية الشعب الفلسطيني عند عملية سيف القدس، ولا عند ردة فعل العالم الكبيرة على ممارسات الصهاينة الوحشية بطرد أهالي حيّ الشيخ جراح في القدس من بيوتهم، بل استمرت الحملات بالدفع نحو المقاطعة للسنين التي تلت. لكن عملية طوفان الأقصى تسببت بصدمة عالمية حقيقية وبانبهار عالمي، بأنه يمكن لمجموعة مقاتلة أو مسلحة صغيرة، مواجهة جيش "دولة"، ويبدو أن غرور الأميركيين من إدارة بايدن لم يعلمهم الدرس جيدًا، وأن الهراء المتمثل بتعبير العداء للسامية لن يكون بذي مفعول طويل الأمد، فبعد أسابيع قليلة على بَدْء المجازر في غزّة ابتدأت المظاهرات تجتاح شوارع المدن الكبرى، وبعد مئتي يوم من المجازر احتل أنصار فلسطين من الطلاب الأميركيين ساحات الجامعات.
مرور الوقت منذ العام 1993، أثبت أن النضال من أجل القضايا العادلة لا بد أن يؤتي أُكله، وخاصة بعد تجربة 2021 خلال عملية سيف القدس. إذًا، فالعملية تراكمية ويجب البناء عليها، والحديث عن العجز عن تغيير الرأي العام العالمي ليس بالكلام المقبول اليوم. قد لا يجدي دون القيام بمواقف مبدئية، وفي حال الصمت وعدم المطالبة بالحقوق. وهنا لا يمكننا أن نقلل من نظافة كف المقاومة، بمعنى أنها لم تهاجم حتّى اليوم مركزًا مدنيًا واحدًا، ولم تقصف مشفى أو مركزًا صحيًّا أو مركزًا مدنيًّا، وحتّى إن كان الاعتبار المنطقي أن هذه المناطق جميعًا في فلسطين هي مراكز احتلال، إلا أنها لم تستهدف سوى المراكز العسكرية في حين أن العدوّ كان يستهدف المدنيين من كبار السن والنساء والأطفال والمشافي ودور العبادة، في وقت لم تستهدف المقاومة فيه كنيسًا يهوديًا واحدًا. وهذا ما بات العالم يراه بوضوح وبات يبني على الشيء مقتضاه.
تتصاعد الحركة التبادلية اليوم في الجامعات الأميركية مع أنّ هناك محاولة من بعض الإعلام الغربي لشيطنتها، وابتدأ التضامن ما بين إدارة الجامعات ومدرسيها وبين الطلاب. حتّى أن بعض إدارات الجامعات مثل جامعة أريزونا وجامعة هارفارد نزلت من عليائها، وابتدأت الحوار مع الطلاب ووافقت على وقف التبادل العلمي ما بينها وبين جامعات الكيان، مما سيكون له تأثير كبير في المستقبل على تقييم جامعات الأخير العلمية، خاصة إذا ما استمر العمل بهذا الاتّجاه. أيضًا أسهمت حركة المقاطعة المتنامية في الأشهر الماضية بإغلاق مطاعم ماكدونالدز في الكيان، وهذا جيد وهام. وهكذا يكون البناء التراكمي لنتائج الاعتصامات الطلابية، وهذا ما أقلق الكثير من المحللين السياسيين الصهاينة. ثم إن الحركة التبادلية للاعتصامات والمظاهرات، والنداء الهام "حرروا فلسطين"، أخذ منحًى هامًا عندما سارت المظاهرات في الضفّة ورفعت اليافطات من غزّة المنكوبة وهي تحيي هؤلاء الطلاب والمتظاهرين، عملية تبادلية هامة لم نشهد لها مثيلًا في التاريخين القديم والحديث، إلا مشهد أولاد الكيان وهم يوقعون الصواريخ التي أطلقت باتّجاه الجنوب والضاحية وقد كتب عليها "من أطفال "إسرائيل" إلى أطفال لبنان" في العام 2006، وشتان شتان ما بين الحدثين.
لقد ابتدأ العالم فعليًا بالتغير، ولكن هناك المزيد مما يجب القيام به والمثابرة حتّى تصبح المؤازرة ما بين قضايا التحرر في العالم العربي وفلسطين بالذات وما بين العالم الغربي وعلى قدر ما يريده أهل العزم. ولكن هل تنجح هذه التحركات في تغيير السياسات الأميركية والبريطانية بالذات في القريب العاجل؟ هنا يكمن الكلام الصعب. فالتغيير في السياسات يتطلب إما الثورة والانتفاضة أو التغيير التدريجي في بنية النظام في الدولتين اللتين تقودان العالم الغربي، الولايات المتحدة وبريطانيا، وخاصة في أكبر دول أوروبا: ألمانيا وفرنسا. وهذا الأمر يتطلب المزيد من العمل! ولكن المأساة أن الانتخابات في هذه الدول تقوم على التبرعات التي يدفعها رجال المال أصحاب البنوك وصناعة السلاح والإعلام وصناعة التقنيات، والتي تبني مصالحها على المصالح الاستعمارية ودم الشعوب وهي من تدير المؤسسات الأمنية. ومع ذلك، ما بدأنا نشهده من تغيير يجب البناء عليه وتغذيته ورعايته والتواصل معه حتّى يتمكّن من تغيير توجه المصالح الانتخابية في العالم الغربي وصولًا للمزيد من أمثال كورتيز وعمر.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024