معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

ما بين الأميركي والصهيوني "اختلاف" وليس "خلافًا"
17/05/2024

ما بين الأميركي والصهيوني "اختلاف" وليس "خلافًا"

لم يغب مشهد "التذمر" الإعلامي عن التصريحات الأميركية وكذلك الصهيونية طيلة فترة الحرب الوحشية على قطاع غزّة، تذمر متبادل أريد منه تبيان صورة الخلاف القائم بين طرفي الإبادة، والترويج له تحت هذا المسمى لاعتبارات تخدم مصالح كلّ منهما على حدة.

أكذوبة "الخلاف" الأميركي - الصهيوني باتت باهتة مع دخول الحرب الوحشية على غزّة شهرها الثامن، وفي كلّ مرة تعلو فيها نبرة أحد الطرفين، تتلاشى معها مصداقية التصريحات العلنية منها والمسرّبة، لأن ما بين الأميركي والصهيوني حقيقةً هو "اختلاف" وليس "خلافًا"، وحتّى الاختلاف القائم يقف عند حدّ أو سقفٍ معيّن ولا يقود إلى حدّ التصادم بينهما.

الحقيقة أن هذا الاختلاف لا يطال الأهداف والاستراتيجيات العليا المتفق عليها بين الحليفين، بل يقتصر على التكتيكات والخطط والأدوات، لأن دعم "إسرائيل" والحفاظ على أمنها وتفوقها العسكري والاستخباراتي هو أولوية بالنسبة للإدارة الأميركية مهما كانت، جمهورية أو ديمقراطية، إذ يعد هذا الأمر حاسًما ومتفقًا عليه لدى كلّ أقطاب الحكم في أميركا.

لفهم سياق الاختلاف القائم حاليًّا بين الأميركي والصهيوني، لا بد من التفريق بين أمرين، الأول وهو نمط العلاقات الاستراتيجية والشراكة التي تربط بين أميركا كدولة و"إسرائيل" من جهة، وبين بايدن وحكومة نتنياهو من جهة أخرى، في إطار العلاقة الأولى قدم بايدن كلّ أنواع الدعم المطلق للكيان الصهيوني، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا وحتّى قانونيًا في مجلس الأمن الدولي، وهذا الدعم الأميركي لم ولن يتغير فعليًا على أرض الواقع، فضًلا عن تأكيد بايدن المستمر على هذا الدعم المطلق لـ "إسرائيل" في كلّ تصريحاته.

أما في إطار العلاقة الثانية، فلا بد هنا من العودة بالذاكرة إلى الوراء قليلًا، وتحديدًا قبل بدء عملية طوفان الأقصى، حيث سادت حالة من الفتور بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، لا سيما بعد معارضة الأولى للإصلاحات القضائية التي قامت بها حكومة نتنياهو المتطرّفة، يضاف لذلك أيضًا أن بايدن لم يدع "نتنياهو" للبيت الأبيض بعد توليه الرئاسة، على خلاف ما هو متعارف عليه في السياسة الأميركية.

بعد معركة طوفان الأقصى، كان بايدن مضطرًا لدعم نتنياهو وحكومته تحت شعار حماية أمن "إسرائيل" وتمكينها من الدفاع عن نفسها، ودعم هدفه المطلق في القضاء على حركة حماس، لذلك عمل على تزويدها بجميع أنواع الأسلحة المدمرة وحتّى الممنوعة دوليًا كالقنابل الفوسفورية، وقد أشارت الصحافة الصهيونية في نهاية العام المنصرم إلى أن أميركا أرسلت 244 طائرة شحن و20 سفينة محملة بأكثر من 10 آلاف طن من المساعدات العسكرية للكيان الصهيوني، ويشير مصدر أميركي آخر إلى أن أميركا وافقت على أكثر من 100 صفقة سلاح وذخيرة لـ"إسرائيل" منذ بداية الحرب.

مع دخول الحرب الصهيونية الوحشية على غزّة شهرها الثامن، لم تحقق حكومة نتنياهو المتطرّفة أيًّا من أهداف الحرب المعلنة، والتي تمثلت بشكل أساسي في القضاء على حركة حماس وإعادة المخطوفين الصهاينة ومنع أي تهديد من قطاع غزّة، بينما كان الأمر الوحيد الذي حققته هو الدمار الهائل للقطاع وقتل ما يزيد عن 35 ألف شهيد فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى وجود 80 ألف مفقود وجريح، ومع تعاظم الكارثة الإنسانية والإبادة الجماعية وحرب المجاعة في غزّة، وإصرار الكيان الصهيوني على التهجير القسري للفلسطينيين، بدأت إدارة بايدن تعبر عن امتعاضها بسبب تجاهل كيان العدوّ لمطالبها ولا سيما تلك المرتبطة بمحاولة تقليص عدد الضحايا المدنيين، وبالطبع هذا الامتعاض منبعه ليس حماية أرواح الفلسطينيين، وإنما لأن العدد الهائل من الشهداء والجرحى أحرج واشنطن، ويكاد يطيح بأهدافها الاستراتيجية في المنطقة، وسُمعتها في العالم.

هذه التداعيات شملت أيضًا تزايد الضغوط والمعارضة الداخلية في الحزب الديمقراطي، ومناصريه، خاصة بين الشباب والعرب والمسلمين والأقليات الأخرى ضدّ سياسة بايدن، والذين أعلنوا عن عدم تصويتهم له في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما ظهرت ملامحه في الانتخابات التمهيدية في العديد من الولايات، وهو ما قد يهدّد فرص بايدن في الفوز بولاية ثانية خاصة مع تقدم منافسه الجمهوري ترامب في استطلاعات الرأي، ويضاف ذلك لما تشهده الجامعات الأميركية من مظاهرات داعمة للقضية الفلسطينية.
رغم أن إدارة بايدن باتت تشعر بأن حكومة نتنياهو تشكّل عبئًا استراتيجيًا عليها، ورغم أن لهجتها وخطابها السياسي تجاه نتنياهو وحكومته بدأت تتغير نوعًا ما، مثل معارضة بايدن لأي عملية برية صهيونية في رفح ما لم تكن هناك خطة موثوقة لإجلاء المليون ونصف المليون فلسطيني، ودعوة زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ إلى إجراء انتخابات جديدة في "إسرائيل" وتغيير نتنياهو وكذلك التأكيد على ضرورة حل الدولتين لضمان انخراط الكيان المحتل في المنطقة، إلا أن هذا التغير يبقى محصورًا فقط بالخطاب السياسي ولا يعكس تبدّلًا جذريًا في السياسة الأميركية تجاه الحكومة الصهيونية.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة أن هذا التغيّر في الخطاب السياسي لم يترجم في ضغوط وتحركات جدية من أجل وقف الحرب بشكل دائم، أو العمل على تطبيق مبدأ "حل الدولتين" على أرض الواقع، لأنه في الحقيقة جاء لاعتبارات سياسية وانتخابية، هدف بايدن من خلالها إلى استيعاب الضغوط المتزايدة عليه وكسب أصوات العرب والمسلمين، والحفاظ على صورة أميركا في الخارج وتجميلها عبر الشعارات والتصريحات التي تبنت إعلاميًا العمل على تخفيف المعاناة عن الفلسطينيين وإدخال المساعدات.
الحقيقة إذًا أن ما بين الأميركي والصهيوني لا يرقى لمستوى الـ"خلاف"، بل يظل ضمن نطاق الاختلافات في الأساليب والعمليات، ولا يطال المصالح الاستراتيجية المشتركة بين الطرفين، فـ"إسرائيل" المجرمة ليست سوى نسخة مصغرة عن سيدتها أميركا، وما هي في الأساس سوى وسيلة ووكيل معتمد لتحقيق الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط وتعزيز سياستها الظالمة والاستكبارية في العالم.

ولعلّ أفضل مصداق على هذا الحديث، هو إقرار مجلس النواب الأميركي، الجمعة 17 أيار/مايو 2024، مشروع قانون دعم المساعدات الأمنية للكيان الصهيوني، وفقًا لبنود تمنع إدارة الرئيس بايدن من الضغط على "إسرائيل" لناحية تسليحها. حيث صوّت المجلس لمصلحة تمرير مشروع قانون يقوده الحزب الجمهوري لإجبار تسليم أسلحة حربية إلى "تل أبيب"، وينصُّ مشروع القانون على عدم جواز استخدام الأموال الفيدرالية لحجب أو وقف أو إلغاء تسليم المواد الحربية أو خدمات الحرب إلى كيان العدو، والتي تسمّيها "الخدمات الدفاعية". كما لا يُجيز استخدام أي أموال لدفع راتب أي موظف في وزارة الحرب أو وزارة الخارجية الأميركيتين يعمل على الحد من تسليم إمدادات الحرب إلى "إسرائيل".

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات