آراء وتحليلات
الوعد الصادق.. البحث عن الحقيقة
إن حقيقة ما جرى ليلة الرابع عشر من نيسان، ليست مجرد قصّة قرار عسكري صدر من طهران، أعقبته صواريخ انطلقت من منصاتها ووصلت إلى أهدافها، ورسمت بسيرها، وعلى طريقتها الخاصة –ثنائية الإيمان والقوّة - مفتتح عصر جديد، ليست الحقيقة مجرد ساعات جرى فيها الاشتباك الأكبر في الشرق الأوسط، بل هي في الحقيقة لحظة فارقة ومؤسسة، بدأت قبل هذه الليلة بكثير، وستستمر بعده بكثير جدًا، لأن الانقلابات الاستراتيجية الهائلة لا تخرج إلى الواقع فجأة، ومن المجهول.
منذ البداية، وكنقطة أولى قبل أن يندفع القلب إلى سرد عن عملية "الوعد الصادق"، لا بد من وضع عنوان أول أو عناوين لأسس سياسات الثورة الإسلامية المشروعة تجاه قضية فلسطين، فالشرعية ليست مجرد استجابة مشحونة بالعاطفة تجاه قضية أو مبدأ، مهما كان ملحًا أو واضحًا، ليست نزقًا إلى الحركة لغرض الحركة والاستعراض، الشرعية قبل كلّ شيء كانت وستكون "القدرة والقرار"، والدول لا تحصل على الشرعية عبر نداء معنوي أو أخلاقي، مهما خلصت النية وتجردت، ولا تكتسبها لمجرد أنها تتصور إن الحق معها، بل لأنها تملك مقدرات الحصول على حقوقها المشروعة، وتتمتع بحرية ومسؤولية القرار الوطني للدفاع عن خياراتها وقضاياها، خصوصًا المصيرية، والنقطة الثانية هي أن الثورة الإسلامية قد اختارت بإرادتها الحرة وبعزيمة إيمانية لا تقهر لمفجرها الإمام الخميني – قده - تبني قضية "فلسطين" كخط استراتيجي واضح لها، بكلّ ما كانت تعرفه مقدمًا من تبعات، وما تحملته بعد قرارها من تضحيات، وأخيرًا فإن نهوض طهران بواجبها الديني والوطني والقوميّ بتصفية البؤرة السرطانية في المنطقة قد مر عليه 45 عامًا، وكانت كلها سنوات مخضبة بشلالات الدم والعرق والدموع، ومليئة بأشكال لا نهاية لها من المحاولات الأميركية بالحروب والتهديدات والغوايات، لرد الثورة الإسلامية أو على الأقل تليينها، لكن هذه الاستراتيجية ظلت نقية عنيدة صلبة، حريصة في كلّ الأوقات على استدعاء قيمتي الجهاد والصبر، لكل من أراد أن يفهم، أو أن يرى الواقع على ما هو عليه بالفعل.
عقب عملية "الوعد الصادق" التي نفذتها الجمهورية الإسلامية وفاءً لوعدها بالانتقام لشهداء الهجوم الصهيوني الغادر على قنصليتها بدمشق، عاثت ذئاب الطائفية وذبابها في الأرض نعيقًا ونباحًا، وكأنهم في سباق من يرفع صوته ليصل لآذان السيد الأميركي أكثر، هؤلاء البؤساء ومنذ اللحظة الأولى اختاروا الخندق الصهيوني، لماذا؟ لأنه كان من الطبيعي أن تثير الضربة الإيرانية فيضانًا من مشاعر العقلاء وأصحاب الضمير ومن لا يزال في قلبه ذرة حياء، لمناقشة الضربة وتداعياتها الهائلة على كيان العدو، وعلى موازين القوى في المنطقة، هؤلاء لا يريدون شعوبًا تعرف للنصر معنى أو طريقًا، هؤلاء يمثلون رأس حربة المشروع الأميركي في المنطقة، بمثل ما يمثل الكيان، وبأكثر ما يمثل الكيان، إنهم شياطين ودجاجلة الهزيمة الناطقة.
تحدث آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، خلال لقائه بعدد من قادة القوّات المسلّحة الإيرانية، بصدق وبساطة المؤمن الواعي، لم يكن خطابًا حماسيًا، رغم رهبة الحدث وجلال اللحظة المجيدة، كانت ابتسامته الهادئة تمنح من تابعه إحساسًا عميقًا ومستمرًا بالاطمئنان، واختار أن يوجه رسالة فيها كلّ بلاغة وروعة الاختصار المكثف الجامع، وبنبرة الخشوع والإخلاص، ليس فيها من نشوة المنتصر شيئًا، لكن فيها عزة المؤمن وثباته واستعداده الدائم وروحيته العالية.
لخص سماحة الإمام القائد الدروس التي يحتاجها الوعي العربي والإسلامي بشدة وإلحاح، اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهي التركيز على الأهداف وعلى الفعل الحقيقي على الأرض، بناءً على خططنا نحن، ورؤيتنا نحن، لا مخطّطات عدونا ولا إعلامه، وقال سماحته، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلّحة الإيرانية، إن "عدد الصواريخ التي أُطلقت أو أصابت هدفها موضوع ثانوي فرعي، والأهم هو إثبات قدرة إرادة الشعب وقواتنا المسلحة دوليًا"، وأنّ "كل حدث له تكلفة ومكاسب والمهم خفض التكلفة وزيادة المكاسب بحنكة، وهذا ما فعلته القوات المسلحة في التطورات الأخيرة".
ما يقوله خطاب سماحة الإمام القائد، يتكامل مع عملية الوعد الصادق، كجهاد تبيين للأمة كلها، جهد يروم بلوغ طريقة جديدة في تناول الأحداث والأفكار والحياة، عملية تتطلب وتقتضي إزالة طبقات مترسبة من الجهل الذي صار فضيلة عند البعض، والعجز الذي بات مهربًا مقدسًا لدى الآخرين، إنها عملية بناء للإنسان، تستدعي فعلًا نظرة على واقع دولنا العربية، بؤس أحوالها وانبطاحها وقبولها الدنية في كلّ شيء، حتّى دينها وعرضها، وبين ثورة وصلت إلى اليوم الذي ترد فيه الصاع صاعين وعشرة على القاعدة العسكرية الأميركية في المنطقة، ثمّ لا تملك الأخيرة إلا القصف بالغارات الإعلامية الوهمية لتبرير ابتلاع الضربة المباركة غير المسبوقة، وهو زلزال له أن يعيد تشكيل حدود قدرتنا على "التغيير"، كأول خطوة على طريق مستقبل الخروج من عصر التبعية –أو العبودية - للأميركي وغلمانه في قصور الحكم العربية.
إن الإنسان يستطيع صنع تاريخه، لكن في إطار الواقع المادي والموضوعي للإنسان وظروفه وإمكانياته، هذه القاعدة المعروفة عند بعض الفلاسفة لا تصلح أبدًا للتطبيق في الظرف الحالي بالمنطقة، وإذا كانت قد جرى تطبيقها في ظروف أسوأ لكانت أدعى للاستسلام أو الانتحار، أو كليهما، لكن ما نعرفه نحن بالقلب والإيمان والضمير، هو أن الثلة المؤمنة الكفؤة قادرة على كسر عنق الواقع المادي وقهر الظروف وتطويع الإمكانيات، والقفز على قواعد المنطق، في انتصار آيار المدوي –ونحن على مقربة من ظلاله الوارفة - فإن حزب الله استطاع لأول مرة في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني أن يجبر الجيش الذي لم يكن يقهر على الفرار كالجرذان، للمرة الأولى خرجوا من أرض احتلوها دون اتفاقيات إذلال وشروط مذلة، هكذا كان ماضينا تحت تلك الراية المباركة المسددة، وهذا هو واقعنا اليوم، والتحرر هو مستقبلنا الحتمي معها وبها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024