معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

إيران تضرب في عمق "إسرائيل": "الوعد الصادق" يكمل رسالة "طوفان الأقصى"
14/04/2024

إيران تضرب في عمق "إسرائيل": "الوعد الصادق" يكمل رسالة "طوفان الأقصى"

قرنت الجمهورية الإسلامية في إيران القول بالفعل وضربت في عمق الكيان الصهيوني، التزامًا بما تعهدت به من الرد على اعتدائه الفاضح على القنصلية الإيرانية في دمشق.
سيُذكر تاريخ 14 - 4 - 2024 جنبًا إلى جنب مع تاريخ 7 - 10 - 2023. الثاني أذلّ هيبة جيش الاحتلال الصهيوني من قبل المقاومة الفلسطينية ومرّغ صورة "إسرائيل" في التراب، والتاريخ الجديد هدم جزءًا كبيرًا من محاولة إعادة بناء الردع الإسرائيلي التي بذلها العدوّ في الشهور الستة الأخيرة عن طريق التدمير الشامل والترويع على مشهد ومرأى العالم كله.
 
لقد كان العدوّ يهدف خلال الشهور الماضية إلى زرع انطباع بأنه "لا يُمسّ"، ومن يتجرّأ على فعل ذلك سيتحمل العواقب الشديدة. تجرّأت إيران ولم تأبه بالتهديد الإسرائيلي ولا بالتحذير الأميركي ولا بالتنديد الغربي؛ ببساطة مارست حقها في الدفاع عن النفس والرد على التجاوزات الإسرائيلية المتكرّرة بحقها، ما دام القانون الدولي مغيَّبًا والمنظمات الدولية شاهدة زور حتّى إشعار آخر.  

أبرز الدلالات 
في هذه العُجالة، يمكن التوقف عند أبرز الدلالات والنتائج التي تمخضت عنه:
1 - أظهرت الجمهورية الإسلامية أنها تتمتع بالقدرة والإرادة اللازمتين لإيجاد توازن رعب مع الكيان الصهيوني. كان مجرد اتّخاذ القرار إيذانًا بأنها لا تعير أهمية لردٍّ إسرائيلي لاحق، وهي التي استبَقَت الرد المحتمل للعدو بالقول إنها ستردّ عليه بجولة أخرى أشد من الجولة الأولى. 

2 - أظهرت إيران بعضًا من قدراتها العسكرية الردعية التي طورتها بإمكانياتها الذاتية بالرغم من الحظر المفروض عليها. ويتلخص هذا الجانب بدقة الصواريخ والمسيّرات التي تضرب حيث تُوجَّه، وهي استهدفت قواعد جوية ولم تستهدف مراكز مأهولة بالمستوطنين انسجامًا مع الهدف المشخَّص باستهداف منشآت عسكرية كان لها دور في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق. وسبق أن اختبرت إيران هذه الدقة في مناورات عديدة وفي قصف قواعد يتمركز فيها جيش الاحتلال الأميركي في العراق. وقد عبّر قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكينزي عن دقة القصف الإيراني لقاعدة عين الأسد بالقول إن الإيرانيين ضربوا الأهداف التي أرادوها، مضيفًا "لم أرَ هجومًا كهذا من قبل".  

3 - كان إطلاق المسيَّرات البعيدة المدى وصواريخ الكروز الجوالة والصواريخ الباليستية منسَّقًا بعناية، بحيث أُنيط بالمسيَّرات تشتيت قدرات الدفاع الجوي للعدو وحلفائه وتمكين وصول الصواريخ إلى أهدافها. علمًا أن المسافة طويلة جدًا (حوالي 1500 كلم) بين مراكز الإطلاق والأهداف المقصودة، وتعرضت خلال مسيرها لعمليات تصدٍّ فوق البر والبحر من قوات دول عدة ليس أقلها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، إلى جانب دول عربية من بينها الأردن. وهناك ملاحظة جديرة بالذكر وهي أن الإيرانيين أطلقوا عددًا كبيرًا من المسيّرات والصواريخ بشكل مقصود بهدف إشغال الدفاعات الجوية على طول مسافة التحليق بقسم منها وتمكين القسم الآخر من الوصول إلى أهدافه، وهذا التكتيك معروف في الأوساط العسكرية. 

4 - كسرت إيران كلّ الرهانات التي ادعت أنها لن تلجأ إلى ضرب "إسرائيل" من داخل أراضيها، وقد فعلت ذلك من دون أن تُحوج بقية أطراف المحور لتقديم المساندة لها، وهذا دليل ثقة بالنفس وبالقدرات الذاتية ينبغي أن يأخذه العدوّ وحلفاؤه في الاعتبار. وتسعى الجمهورية الإسلامية من وراء إصرارها على الرد المباشر على التجاوز الصهيوني الأخير إلى ترسيخ معادلة ردع قوية في وجه الانتهاكات الصهيونية التي أثقلت معنويًا على الداخل الإيراني، ولم يعد من الممكن مجابهتها إلا عن طريق نقل كرة النار إلى داخل كيان العدو.  

5 - لقد كان الرد الإيراني محكمًا ومدروسًا بحيث لا يترك فرصة أو ذريعة للادّعاء أنها ضربت مدنيين أو فتحت بابًا للحرب الشاملة في المنطقة. وهذا ينسجم مع استراتيجيتها في إدارة الصراع مع العدوّ استنادًا إلى النفَس الطويل الذي يقتضيه مثل هذا الصراع. 

6 - قامت إيران بتفعيل الحرب النفسية على العدوّ طوال هذه الأيام، بما يسهم في رفع الكلفة عليه في حال فكّر في استهدافها مرة أخرى.  

7 - قامت إيران بتحضير الميدان السياسي الإقليمي (المجاور لإيران) والدولي لإيصال الرسائل المطلوبة، بما يتماشى مع استثمار الرد العسكري لمصلحة الجمهورية الإسلامية ومحور المقاومة. وفي هذا المجال، أبلغت طهران من يعنيهم الأمر، ومن خلالهم الولايات المتحدة، أن إيران غير معنية بحرب شاملة في المنطقة، لكنّها معنية قطعًا في الرد على عدوان استهدف سيادتها الوطنية. وهذا الجانب من الاتصالات يوفر تغطية سياسية للخطوة العسكرية، ويرسم سقف حدود التعاطي الإيراني بما يحقق الأهداف من دون إعطاء العدوّ فرصة من أجل توجيه التطورات نحو صدام عسكري إيراني - أميركي غير ضروري. 

8 - لقد أصبحت لإيران دالّة على العدو، بحيث فتحت حماقاته لها بابًا لاستهدافه في عقر داره من الآن فصاعدًا. 

9 - انكشف ضعف العدوّ مرة أخرى، فهو يحتاج للدفاعات الأميركية المنصوبة في دول الخليج ومياه وغربي العراق وشرقي سورية والأردن، وكذلك المعلومات الاستخبارية الأميركية التي أنذرته مسبقًا وفقًا لرصد الأقمار الاصطناعية، والتسليح الأميركي الهجومي والدفاعي، ثمّ "طلب الإذن" الأميركي في التعامل مع هذا التحدي. وهذه المرة الثانية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي التي يلجأ فيها الكيان إلى الولايات المتحدة طلبًا للدعم.

نقطة تحول 
بُني قرار الرد على تغيّر في الرؤية الإيرانية الدفاعية ربطًا بنمط العدوان الصهيوني المستمر على مصالح إيران وقواتها في سورية. وتشاركت جهات عدة إسرائيلية وأميركية في الترويج لرأي مفاده أن إيران سترد عبر حلفائها، وعدّلت لاحقًا رأيها لتقول إن إيران ستردّ مباشرة من أراضيها ولكن على نحو شكلي يحفظ كرامتها وللقول إنها انتقمت للهجوم على قنصليتها. لكن هذا الرأي كان متسرعًا ونمطيًا إلى حدّ كبير وافتقر إلى فهم التحول الذي طرأ على تقييم القيادة في إيران بعد الهجوم على القنصلية. هذه نقطة فارقة بالنسبة لطهران، لكن هذا لا يعني قطعًا كليًا مع مرحلة الصبر الاستراتيجي والحكمة في التحرك. ويشرح هذه الرؤية كبير مستشاري رئيس البرلمان الإيراني مهدي محمدي بقوله: "بالنسبة لكل لاعب حكيم، تأتي لحظة يتغير فيها حساب التكلفة والعائد ويتم إعادة ضبط جميع الاستراتيجيات. في إيران، تلك اللحظة كانت الهجوم (على القنصلية الإيرانية) في دمشق".

ويلقي الرد الإيراني الضوء على الحاجة إلى إعادة ضبط التوازن الاستراتيجي في المنطقة، والذي تعرض لتجاوزات صهيونية متعددة في السنوات الأخيرة من القيام باغتيالات لعلماء نوويين في داخل إيران وتنفيذ عمليات تخريب ضدّ منشآت إيرانية حيوية بالاستفادة من تسهيلات تقدمها أجهزة دول حليفة للعدو، وتحريض إدارة ترامب على اغتيال اللواء قاسم سليماني كما أوضح ترامب نفسه بعد خروجه من السلطة، وكذلك مهاجمة مواقع يوجد فيها مستشارون إيرانيون في سورية. وأدت ثلاث غارات في سورية منذ انطلاق "طوفان الأقصى" إلى استشهاد كوكبة من كبار الضباط الإيرانيين العاملين في سورية. ولا يخفى دور هؤلاء الضباط في دعم مقاومة الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني قبل "طوفان الأقصى" وخلالها، وهذا أمر تحدَّث به العدوّ مرارًا. 

يبقى أن نتائج هذه الجولة وما قد يستتبعها من رد صهيوني ستخلّف نتائج هامة على صعيد المنطقة ككل، وستفرز مزيدًا من الحضور الإيراني في الصراع مع الكيان المؤقت بعد سنوات طويلة من الحضور "في الظل"، قامت فيها إيران بتقديم إسهامات كبيرة للمقاومة في لبنان وفلسطين والعراق واليمن. ومن المعتقد أن هذه الجولة ستسهم كذلك في بلورة معطيات جديدة على صعيد التعجيل في إنهاء العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، كما ستؤدي إلى فضح أدوار القوى الانهزامية التي ما فتئت وستبقى تسخّف تضحيات محور المقاومة لتبرير عجزها وتطبيعها مع الكيان الغاصب. 
وما قبل 14 - 4 لن يكون كما بعده، حيث سيضيف رصيدًا وأملًا جديدًا في مسار عمل محور المقاومة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات