آراء وتحليلات
غزّة وجبهات المساندة في الميزان: جدوائيّة المقاومة بين النظريّة والممارسة
منذ نشأة الكيان الإسرائيلي المحتل عام 1948، وما تلاها من محطّات في الصراع العربي الإسرائيلي، تفاعلت المواقف حول كلفة المقاومة والمواجهة ضدّ العدوّ الإسرائيلي وتبعاتها وأثمانها المترتّبة عليها. وإن كانت مسألة الدفاع عن النفس والوجود أمرًا بديهيًّا، إلا أن التباين على الدوام، كان يقع خاضعًا لإجابتين: المقاومة أم الاستسلام.
يعود الجواب لكل فرد بعينه، وربّما للجماعة التي ينتمي إليها - بسبق اختياره أو بموجبه - فتشكّل وعيه وتقوده أو يتمرّد عليها، وكذلك للمجتمع بأسره الذي يبحر فيه بقناعة راسخة أو عن تسليم ساذج أو عصيان.
ودائمًا يرتكز الجواب إلى مثلث البِنية الداخلية (النفسيّة والفكريّة والمعنويّة) وإلى العوامل والعلاقات الخارجيّة لكل من الفرد والجماعة والمجتمع وتأثيراتها البينيّة التبادليّة بالنظرة إلى الذات والوجود والمبادئ والقيم وما أنتجته أو التزمته من القوانين والأعراف، وما تحرّكت بموجبه على ضوء المصالح والغايات ووطأة الأحداث وعمليات استثمارها في السرديّات التاريخيّة والديباجات الإعلاميّة والتنشئة الاجتماعيّة والتربويّة.
يجدر التنويه بأن "المقاومة" في منطقة غرب آسيا - أو ما يعرف بـ"الشرق الأوسط" - تعدّ الكلمة المشتركة لإرادة شعوبها المفعمة بالكرامة والباحثة عن استقلالها وسيادتها وحرّيتها بصدق وعزم، مع انقسام مجتمعي وتفاعلي حولها بفعل ما كسبته أيدي الناس وقادتهم ونخبتهم إزاء الهيمنة وموازين القوى ومروحة خياراتهم ومواقفهم اتّجاه القضايا والأحداث.
وهذا ما يستدعي البحث عن منطق "المقاومة" وشواهد تطبيقيّة له، والتأمل في نتائج الاستسلام. وبالعودة إلى السنن والسياقات السوسيوتاريخيّة والخلاصات العقلانيّة، يتّضح أن (المقاومة):
1. رد فعل طبيعيّ وحتميّ يصون الحقوق والمصالح الوطنيّة وينمّي الهويّة المستقلّة عن العدو، كما يحيي العزّة والأمل، ويغلق مسارب نفوذ الأعداء ويحاصر تغلغلهم، كعمليّة ممكنة ذات امتداد رمزي، يؤدّي تركها إلى الاستسلام. وهذا ما يمكن رصده في مختلف الشعوب التي انتهجت المقاومة خيارًا ومنهجًا ومسلكًا، ويبرز في الاجتماع السياسيّ لمحور المقاومة بنحو خاص، فتراه ناهضًا بمقاومة (وطنيّة وقوميّة وإسلاميّة) شكّلت ردّ فعل طبيعيًّا، انتصارًا لهويّته ودفاعًا عن أرضه وحرّيته وسيادته، وإن تنوّعت مقاربات تلك المقاومات وإمكانياتها وساحاتها وأساليبها في تكبيد العدوّ الخسائر.
2. تعتمد التدبير بعلم وعقل وحكمة، مصحوبًا بالتفاؤل والإبداع والابتكار والدقّة في اختيار الاتّجاه الصحيح واتّخاذ القرار المناسب في التوقيت المناسب مع انتخاب واستخدام الأدوات والقوى الملائمة بعد ملاحظة الأولويّات وتفحّص واضح لحقول المواجهة ومستوياتها وأنواعها. وفي التطبيق على أداء حزب الله بوصفه أبرز حركات المقاومة، تغيب عنده الشعبويّة في اتّخاذ القرار مع استخدام فعّال وصارم "للحرب النفسيّة الصادقة"، فيشيّد مذهبه في التفاعل مع الأحداث لا سيّما الكبرى منها بما يخدم استراتيجيات الصراع وترسيخ المعادلات على طريق الهدف المركزي المشترك لمحور المقاومة بإزالة الكيان الصهيوني الغاصب. وهذا ما برز مؤخّرًا في انخراطه المحسوب بعناية منذ اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى التي قادتها حركة المقاومة الإسلاميّة - حماس في 7 تشرين الأول 2023، وفي استمرار عمليّاته اليوميّة والتدرّج بالتصعيد مع انفتاحه على كبح الحرب الشاملة مع الاستعداد لها دون التفريط بقواعد الردع وتحسين شروطها.
3. تهدف إلى بلوغ مرحلة الردع في المجالات كافّة، واكتساب القدرة الشاملة التي لا تحصل إلا بتمتين وتحصين الركائز والأسس (الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة)، ومعالجة نقاط الضعف الداخليّة، والحفاظ على الوحدة المجتمعيّة ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. وهذا المنهج يعدّ بنيويًّا وشاملًا ويتجاوز اعتماد نمط الإدارة بالأهداف، ويتبلور بمقتضى التحدّيات التي يفرضها تفوّق العدوّ وتفعيله لمختلف جبهات وميادين المواجهة ما يحتّم التعامل معها دون الانحراف عن وجهة وساحة وأولوية القتال وبناء أو تفعيل القدرة العسكريّة والأمنيّة والاستعداد الدائم للتالي من المواقف والتطوّرات.
4. تضع حدًّا لنفوذ العدوّ وتعولُمه وأمله بتغيير الأذهان والمعتقدات والأهداف وأسلوب الحياة عبر إحلاله المؤامرات وانتهاج سياسة الخطوة خطوة التي لا تقف عند حدّ، مع سعيه الخبيث للقضاء على المقاومة أو مسخها وتغييرها عبر احتوائها أو اختراقها وإجهاض دورها. وهذا ما تجسّده قيادات محور المقاومة في خطابها، ويتصدّره الإمام الخامنئي بوصفه قائدًا أمميًّا في مواجهة مشاريع الهيمنة الاستكباريّة، ويُترجمه التنبّه واليقظة لدى دول وحركات محور المقاومة مع اختلاف آليّات ومستويات الاستجابة والتأثير لكل منها.
5. تشكّل عاملًا يؤدّي إلى تحطيم ثنائية المُهيمِن والخاضع للهيمنة بالكشف عن خطط العدو، والقيام بالدفاع المجدي أو الهجوم الاستباقي - دون الانفعال - وتستمرّ إلى إحراز نجاحها في زرع اليأس عند العدوّ عبر مراكمتها إجهاض أهدافه ولَيّ ذراعه، مما يحتّم على المنخرطين فيها التبيين والإجابة عن الشبهات وتفنيد المبالغات وفضح العدوّ والحيلولة دون الانخداع به أو الوقوع في مصيدة إغوائه أو فنون تثبيطه مع إبقاء اليد على الزناد في السير على صراط النصر الحاسم.
بينما يقع "الاستسلام" على طرف نقيض، فكلفته باهظة وخطيرة ومصيريّة تمسّ الوجود، وهذا ما برز في الحالة الصهيونيّة عبر التوسّع الاستيطاني ونشر المستعمرات، وتهجير أهل الأرض، وممارسة الهيمنة السياسيّة والأمنيّة، وممارسة الاعتقال السياسي، ونهب الخيرات والثروات، فضلًا عن ذلّ الاحتلال والاستبداد ومصادرة الحريّة، والاستهانة بالأعراض والأموال. وباستثناء محور المقاومة وبعض القوى الشعبية في العالم المؤيّدة لهذا الموقف، يظهر ثمن الاستسلام للإرادة والضغوط الأميركيّة بعجز الأغلبية الساحقة من الدول الإسلاميّة والعربيّة بجيوشها مجتمعة عن إدخال الدواء والغذاء إلى أهل غزّة ومستشفياتها ونسائها وأطفالها، وليس السلاح أو إيقاف الحرب وتغريم المجرم.
وعليه، فإن جدوائيّة المقاومة عقلانيّة صافيّة وأمرٌ واقع لا استسلام فيه ولا عودة عنه، مقابل الاستسلام الذي تتلاشى معه ثلاثية السيادة والاستقلال والحريّة والعزّة الوطنيّة والثروات الطبيعيّة والإنسانيّة.
*كاتب وباحث في الاجتماع السياسي
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024