خاص العهد
الحريديم.. بين مطرقة الموت وسندان التجنيد
"نموت ولا نتجند"، بهذه العبارة ندَّد اليهود الأرثوذوكس المتشددون "الحريديم" بقرار المحكمة العليا الإسرائيلية الذي يقضي بإلزامهم بالخدمة العسكرية في صفوف جيش العدو. ويأتي القرار في وقتٍ تشكو المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من نقصان عديد قوات الاحتلال جراء الحرب الدائرة في غزة وجبهة لبنان منذ 7 و 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
القرار فتح باب الخلاف على مصراعيه داخل الكيان، ووضع حكومة بنيامين نتنياهو المعنية بإلزام الحريديم بالخدمة أمام كرة نارٍ لن تستطيع تفاديها، فمعارضوه وأعضاءٌ من حكومةِ حربه يعتبرون أنَّ الاستمرار في إعفاء الحريديم من التجنيد يُضر بأمن كيان العدو في ظل الخسائر التي يتكبدها في غزة وجنوب لبنان، بينما يبتز الحريديم نتنياهو بتهديدهم اياه بالهجرة إلى الخارج.
وبحسب ما ذكرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية، فإن المئات من الحريديم أغلقوا طرقًا في مدينة القدس المحتلة رفضًا للخدمة العسكرية، حاولوا خلالها إغلاق جسر رئيسي في القدس المحتلة قبل أن تداهمهم شرطة الاحتلال بالمياه العادمة لتفريقهم.
وأشارت الصحيفة إلى أنَّ الاحتجاجات تأتي تزامنا مع حالة من الترقُّب في الداخل الإسرائيلي، إذ سيتوقف نفاذ القرار الذي كان يعفي الحريديم من الخدمة العسكرية لدراسة التوراة بالمدارس الدينية نهاية الشهر الجاري.
الخبير في الشؤون الصهيونية الدكتور عمر جعارة أكَّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري أن كون الحريديم معفيين من الخدمة العسكرية، أثار حفيظة مختلف الشرائح داخل كيان العدو، ما فتح جدالًا حول "غياب المتديِّن ودفاع العلماني أو غير المتدين" فقط عن "إسرائيل"، في حين كان ردُّ المتدينين بأن الدعاء والصلاة من أجل "إسرائيل" وأمنها لا يقل أهمية عن الخدمة في الجيش.
وأضاف جعارة: "ترى بعض أوساط السلطة في "إسرائيل" أنَّ الجيش والمؤسسة الأمنية لا بد أن يكون فيها حضور من داخل هذا التيار، وأن لا يُترك للتيار الليبرالي أو العلماني القريب من الولايات المتحدة، ويمثل هذه الرؤية وزير "الأمن القومي" إيتمار بن غفير، الذي قال إنه يؤمن بحل قضية التجنيد من خلال التفاهم، والخدمة في الجيش امتياز كبير لليهودي الذي يدافع عن نفسه وبلده".
وتابع القول: "هذه الرؤية ترتطم بالرؤية الحاخامية التي عَّبر عنها بطريقة أحدثت سجالا كبيرا الحاخام يتسحاق يوسف، الحاخام الأكبر لليهود السفارديم وهم اليهود الشرقيون، حيث قال إنه إذا تم إجبار المتدينين على الخدمة العسكرية، فإنهم سيسافرون جميعًا إلى لخارج، وبكل سهولة سيشترون تذاكر الطيران وسيغادرون. كما اتهم العلمانيين بأنهم يضعون "إسرائيل" على المحك".
وشدَّد جعارة على أنَّ الخلاف حول التجنيد ليس وليد اللحظة، لكن تصريح يتسحاق يوسف غير مسبوق من حيث الحديث عن مغادرة الكيان، في وسط حرب بقاء يعيشها الكيان الصهيوني، ما فجّر حقيقة حاول قادة الاحتلال إخفاءها، وهي أن حتى أكثر اليهود تشددًا لديهم استعداد لمغادرة الأراضي المُحتلة وبكل سهولة، ولذلك كان الرد سريعًا من رئيس حزب "المعسكر الوطني" بيني غانتس الذي قال إن "كلمات كبير حاخامات السفارديم تمثل ضررا أخلاقيا على "الدولة والمجتمع" الإسرائيلي"،كما كان وزير الحرب السابق أفيجدور ليبرمان أكثر وضوحًا باعتباره أنَّ تصريح الحاخام يعرض "أمن إسرائيل" للخطر.
واعتبر جعارة أنّ هذه القضية من القضايا المتفجرة في ظل وجود سعي من الحكومة لإقرار مشروع قانون يستثني الحريديم من الخدمة العسكرية، ويزيد في الوقت نفسه الخدمة العسكرية من 32 إلى 36 شهرًا ومن جهة أخرى، فإن تصريح حاخام السفارديم في إحدى دلالاته يظهر بشكل غير مباشر الاحتجاج على عنصرية اليهود الأشكناز تجاه السفارديم الذين يمثِّلون أقلية، وهذا يشير إلى الخلاف في الداخل الإسرائيلي.
وبيّن أنَّ عدد الحريديم كمُكوِّن حاضرٍ في "إسرائيل" يزداد، وسيكون لهذا الملف وقعه في إضفاء مزيد من الخلافات بين مكونات الكيان الصهيوني التي ساهمت عملية طوفان الأقصى في إبرازها، فهذا المكون قبل في 1948 فكرة "الدولة" بصعوبة بالغة، وكان قبولهم بوجود "الدولة" التي رفضوها من منظور ديني، هو إعفاؤهم من التجنيد الإجباري كأحد الشروط، وكان هذا عندما كان عددهم محدودًا.
ولفت جعارة في ختام حديثة لـ "العهد" إلى أنَّهم منذ عام 1998 ومع تزايد أعدادهم، عادت هذه القضية للحضور، وتم إيجاد بعض الحلول التي رآها الحريديم ضغطًا عليهم، كما أن الانضمام من الحريديم لحكومة نتنياهو كان شرطه هو الإعفاء التام لهم من الخدمة العسكرية، والآن هم يضعون الحكومة أمام الاختبار، فهذا الملف يدخل في سياق ما يسمى العقود الاجتماعية للكيانات والدويلات المركبة.