طوفان الأقصى
"طوفان الأقصى" وكذبة المحتوى المحايد.. استغباء أم تضليل مدسوس!
ليلى عماشا
في زمن الحرب البيّنة، كلّ محاولات الظهور بمظهر محايد يحفظ مسافة واحدة مع الحقّ والباطل على حدّ سواء، هي في الواقع اشتراك صريح بالعدوان على أهل الأرض؛ فالموضوعية هنا تتجلّى في الدفاع عن الحق ومناهضة الباطل، من باب العقلانية والصدق على الأقل، وكلّ تعريف لها بشكل يجعلها ترادفًا لــــ"الحياد" هو تمويه لحقيقة مناصرتها للباطل بشكل مموّه.
أوردت المؤسسة اللبنانية للإرسال تقريرًا "حياديًا" حول معركة "طوفان الأقصى"، حاول معدّه تقديم موضوعه وكأنّ التاريخ بدأ في صباح السابع من تشرين الأول/ أوكتوبر، وأنّ قبل هذا اليوم، كانت غزّة وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلّة يسودها السلام: لا احتلال ينكّل بالناس وبأرضهم منذ العام ١٩٤٨، لا اعتداءات متواصلة، لا قتل، لا أسر ولا حصار.
يحاول التقرير ارتكاب كذبة تاريخية، وهي أنّ المقاومة في غزّة استفاقت في صباح ٧ أكتوبر/تشرين الأول، واتخذت قرارًا مفاجئًا بالاعتداء على المستوطنين والجنود في غلاف غزّة، ليتفهّم بعدها تعاطف العالم مع "الإسرائيليين" الذين يظهّرهم كضحايا. وهي بالضبط الرواية الصهيونية - الأميركية التي جنّد الغرب كلّ ترسانته الإعلامية لتسويقها وجعلها تبدو وكأنها حقيقة، وسرعان ما انكشفت حتى أمام الجمهور الذي وُلد وتغذّى على أكذوبة المظلومية الصهيونية.. هذا الجمهور الذي نراه اليوم في سائر المدن الأوروبية والأميركية يتظاهر ويرفع الصوت ضدّ ما اكتشفه من همجيّة وإبادة. وطبعًا، توخيًا "للموضوعية"، يلومُ التقرير "الإسرائيليين" بسبب الدمار والمجازر التي يرتكبونها، ولكن ليس لأنّها فعل إباديّ شنيع وإنّما كونها حوّلت قادة المقاومة إلى أبطال بنظر الشباب العربيّ.
وكي يذهب في حياديّته الساقطة إلى مرتبة أعلى، يحسب الحرب صراعًا بين "مجانين" في طرفين: "اليمين المتطرّف في إسرائيل" -على أساس أن بقيّة مكوّنات الكيان المؤقت إنسانية ووديعة- وحماس -على أساس أن المقاومة في فلسطين هي تكليف حزبي وليست حقًّا طبيعيًا لأهل الأرض- فيحار المشاهد إن كان صاحب التقرير يصدّق فعلًا ما يقول، فيُشفق عليه، أو يمارس فعل الكذب والتمويه بالشكل الأوقح، فيحسبه تقريرًا معدًّا في إحدى المكاتب الإسرائيلية المتخصصة بصناعة الخطاب الموجّه إلى الشارع العربي.
يكمل التقرير سرد الأحداث وشخصياتها تحت العنوان الضمنيّ الواحد: طرفا صراع متساويان بالهمجية، "بالجنون". اللافت في الأمر أن قنوات التطبيع، على اختلاف ألوانها، تصرّ على الأكاذيب الإعلامية مع علمها أنّها لم تعد تنطلي حتى على الذين بالأصل يتعاطفون مع الصهاينة، المحرجون من الإبادة التي يمارسها هؤلاء على مرأى العالم ومسمعه، بل وتواطئه الواضح والصريح.
بالعودة إلى فكرة الحياد وترجمتها في المفردات والمصطلحات المدسوسة في خطاب كان سيبدو عاديًا بالنسبة إلى مستمع "لا يعرف"، وتغفل أن جميع من على الأرض اليوم يعرفون تمامًا ما يجري، ويتخذون منه موقفًا واضحًا: مع الحقّ أو مع الباطل. وكلّ ادعاء بوجود منطقة رمادية بينهما هو ادعاء كاذب ومكشوف. تمامًا مثل المحتوى الذي شاهدناه على القناة المذكورة، الذي في أحسن الأحوال يتوخى المساواة بين المعتدي والمعتدى عليه، باسم "الموضوعية الإعلامية". وبذلك لا يسقط فقط بالمعيار الأخلاقي والإنساني والمهني، بل يتحوّل إلى فعل مهين ليس بحق المعتدى عليهم فقط، بل بحقّ عقل كلّ مستمع ومشاهد.