نقاط على الحروف
درس العماد.. مفتاح الماضي والمستقبل
أحمد فؤاد
دارت عجلة الأيام دورتها الكاملة، وعادت الأنظار والقلوب إلى لحظة النشوء والتشكّل الأولى لملامح هذه المنطقة العربية ومشروعها الوحيد الناجح والممكن وطريقها الوحيد إلى الحياة، وليس النصر فقط. وفي هذه اللحظة، مع بداية شهر رمضان الفضيل، تعاود صورة المجاهد القائد صاحب الكلمة التي ثقبت جدار الزمن، واستبقت رؤياه من الماضي صورة المستقبل الحقيقية الناصعة، عرفها هو وقالها بعبقرية الشهادة ودليل القيادة المتبصرة الواصلة المصبوغة كليًا بإيمان راقٍ وشفاف، وكأنّه ما يزال يردّد جملته الخالدة: "يلّي بتقاتل فينا هي الرّوح" مفتاحًا أمام واقع صعب وملتبس، وهي ليست قاموسًا لتعريف الجهاد، لكنّها هذا الشعاع المبارك الذي لا يمحو أثر الشهداء ويُبقي سيرتهم إلى الأبد، نابضة حية تنتفض بأسمائهم العزة وأجمل آيات البهاء.
من المنطقي أن تكون الوجهة، في هذه اللحظة المفصلية بالذات، هي سيرة القائد المجاهد عماد مغنية. ومن الطبيعي أن تكون هي طاغية الحضور في أيام الدم لمواجهة طغيان الآلة العسكرية التدميرية لأميركا وكيانها القزم التابع. صورة الحاج رضوان ليست في الحرب شعارًا له بريق أو راية ترمّز، بل هي في الواقع أقوى سلاح في الخندق العربي والإسلامي، وأكثره فتكًا وقدرة على إسقاط أعقد المواقف، وفوق رأس من خططها ورسمها، بإرادة لا تُضاهى وقوة جبارة واندفاع شريف إلى أول "طريق الفتح"، ليس أقل من ذلك سيخط ثأر عماد مغنية في التاريخ.
إذا كانت أيامنا شديدة البخل في ما منحتنا إياه من رؤية القائد الجليل وأعماله البطولية الخارقة ومآثره العظيمة، وكلّ ما أحاط بانتصاره وانتصار حزب الله وانتصار أخوانه وتحرير وطنه وأرضه، تحت قيادة الأمين المفدي سماحة السيد حسن نصر الله وبتوجيهه، إلا أنها تركت لنا البقية من اللمحات القليلة جدًا والنادرة ما يصعّب مهمّة الكاتب، أي كاتب، في المحاولة لنقل سطر واحد من فكر هذا القائد المبدع فائق التميّز والذكاء.. يدرك القلب أنها قصّة نبل عند درجة سمو ترهق الفهم العادي، وكذلك ألمها بترويعه الحاد وهول مشهد النهاية الرهيب وجلال الشهادة، وأنه باجتماعهم معًا وأثر مزجهما الفريد، قد جعل من استرداد دروس القصّة مجهدًا، قدر ما هو أشد الواجبات المقدسة والفروض الضرورية، اليوم، والآن.
الجديد في شهر رمضان، وهو شهر يليق بأنبل قربات المؤمن إلى الله، أن العدوّ قد بدأ يستكشف فيه ضعفه واهتراءه وخيبة مسعاه لتركيع غزّة، وبدأ بسرعة وبوقود دفع وحركة أميركية، ومعهما خندق النفاق العربي الخالص، في مهمّة تحويل الحرب العداونية الهمجية على غزّة من معركة سلاح ورجال، أثبت فشله فيها بجدارة، إلى معركة حصار وتجويع، وإلى مسلسل ممل متوالٍ من المفاوضات مع المقاومة، وبضغط من احتياجات إنسانية وعدوان يفوق طاقة المدينة الصغيرة المعزولة المحاصرة، وتركيز جهده الرئيس عليها، والالتفات إلى مصدر التهديد الوجودي على كيانه، ومحاولة الاستعداد لحرب جديدة، قبل أن يبرد دم غزّة ويتفرق بين كلاب العرب أصحاب القصور العالية.
جبهة الشرف في شمال فلسطين المحتلة، أو ما نعرفها نحن في جنوب الكرامة، هي الجبهة التالية منطقيًا للصهيوني إن أراد أن يبقى من الأصل في المنطقة. فهذه الجبهة ومع الدخول المبارك لحزب الله يوم الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على خط "طوفان الأقصى"، قد فوتت على العدوّ عنصر المبادرة، وتركته طوال 157 يومًا من أيام القتال محصورًا في ركن ردّ الفعل الضيق. بعد كلّ هذه الشهور اكتشف الإعلام الصهيوني وخبراؤه العسكريون الفشلة أن ما حدث على جبهة جنوب لبنان قد أطاح بفكرة "الوطن الآمن" أو "الملجأ" التي بُنيت وانطلقت عليها بالأساس وبالجذر فكرة زراعة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ليصبح مأوى لكل قطعان يهود العالم، بتعبير أدق "قلعتهم" المنيعة.
اكتشف العباقرة في كيان العدوّ أن 5 شهور من القتال لم تحقق لهم إلا مأساة كاملة الأوصاف والملامح، بينما تركز الجهد العسكري والإعلامي الصهيوني والأميركي على تحقيق لائحة أهدافهم في غزّة، ولو بمحوها كليًا من الوجود، فإن فاعلًا أصيلًا آخر دخل في الشمال، هذه القوّة الإقليمية الجديدة استطاعت تبديد كلّ رصيد استثمرت فيه "تل أبيب" منذ 75 عامًا وإلى اليوم. الكيان يقصف يوميًا، وتضرب قواعد قيادته ومراكز مراقبته وتقطع أعصاب الرؤية والإنذار المبكر لديه، ثمّ كان كلّ ما فعله أنه "يرد على مصادر الإطلاق"، وهذا هو الوصف الرسمي الذي يرد للمتحدث باسم جيش عصاباتهم.
الكيان الذي كان ينتظر أقل "بادرة شر" أو حتّى تهديد- بحسب توصيفه- ليقوم بعمل مسلح كاسح، ففي حرب حزيران 1967 رأى أن إغلاق مضائق تيران هو الرصاصة الأولى ليطلق جيشه نحو اكتساح 3 دول عربية، ثمّ تكرّر الموقف باتجاه المفاعل النووي العراقي، وهو كان مجرد احتمال نووي لم تتحمّله "إسرائيل" النووية، فقررت العدوان وإزالة خطره للأبد. هذا الكيان المستأسد دائمًا تحول فجأة إلى ما يشبه طابة التصويب للمجاهدين، ليلًا نهارًا، يجري إذلاله وكسر نظرية الأمن القوميّ التي يقدسها ويعدّها توراة العصر، ومع هذه النذر، فإنّ الدخول الأميركي إلى خط تبريد أزمة غزّة، سواء بتنسيق مساعدات عبر ميناء عائم أو غيره، تصبّ في صالح نقل المواجهة المفتوحة من غزّة لغرف التفاوض المغلقة، وبالتالي ترك الحرية للكيان ليحاول أن يلملم شتاته، وأن يتفرغ للجبهة الشمالية بالكامل.
في المحصلة؛ حكّام الكيان أدركوا متآخرين أن خسائرهم على جبهة لبنان كانت شقًا في القلب سبّب نزيفًا لمستقبل فكرة استمرارهم في فلسطين، ربما يدركون الآن أن أيام معركتهم الأولى - والأخيرة - الحاسمة قد حُلّت، فهذا الكيان وعلى جبهة الجنوب بالذات، لن يعيش أكثر من معركة حسم أولى/ أخيرة واحدة فقط.
بقلب مطمئن وبروحية مؤمنة، يستطيع الإنسان – أي إنسان لديه بعض العقل - تصوّر حرب صهيونية جديدة على الجنوب، كيف ستكون نهاية ورطتهم أمام سواعد أدمنت إرسالهم إلى الجحيم حيث مقرهم الأخير، وأمام رجال عرفوا مقاتل العدو، وخبروا نقاط ضعفه ومكامن هشاشته، ولديهم "هدف واضح ومحدّد ودقيق هو إزالة "إسرائيل" من الوجود"، وفوق كلّ شيء لديهم – هم أبناء عماد وأخوته - ثأرًا موعودًا مع الكيان، ربما المقارنة فيها شيء من عدم المنطقية، إذ تأتي في ذروة خيبة صهيونية كاملة من العمل في مجال محدود الإمكانات والفرص وصغير المساحة، أذل رقابهم الصلبة.
حين قرر سماحة السيد حسن نصر الله أن يكون عنوانًا للشهداء، لقوافل الحزب الذاهبة صوب هذا الجسر الحسيني النوراني بإيمان وصبر وبصيرة تليق بالطريق وزائريه، فإنه كان عنوان "على طريق القدس". لم تكن تلك كلمة مهيبة من قائد له فكره الخلّاق، بل كانت وعدًا آخر لنصر غزّة وفلسطين والأمة كلها على هذا الزمن الصهيوني وهذا التجبر الأميركي، لسنا بحاجة لسفر توراتي قديم يؤشر أو يلمح لنهاية الكيان من الشمال –سفر آراميا - ولكننا نعرف أن وعد الله حق في التوراة والإنجيل والقرآن، ونعرف أن سيد المقاومة كان يعدنا نصرًا رآه ببصيرته، وبيننا وبينهم الأيام والليالي، وهي أقرب ممّا يعلمون.
..
ولأن الشهداء تزين أرواحهم هذه اللمسة الإلهية التي تعرف أقدارهم وتقودهم عبرها من بوابات هذا العالم إلى عالم البقاء الدائم، فإنّ طلّة شهر رمضان هي الأخرى كانت مصادفة تعانق ذكرى رحيل أشرف رجال العسكرية المصرية عبر تاريخها، وهي على كلّ حال قلة نادرة، فقد كان عبد المنعم رياض بينها كالماسة في وسط عقد الحق والشرف، لو كان الرجل يتطلع إلى عالمنا العربي اليوم، ورأى قزمًا يتلو مزاميره على منافقين في مناسبة جليلة لارتقائه، ربما لملكته الحسرة، لكنّه لو مدّ بصره أبعد من قاعة احتفالات مزركشة بالدم والمال الحرام والخيانة، لعاين صدق نبوءته المريرة، "لو لم نسترد سيناء بمعركة طويلة، يدفع الكل ثمنها، فإنّ القيم في هذه البلد ستنهار، ستتحول مصر إلى مرتع للقوادين نهارًا والعاهرات ليلًا"..
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
25/11/2024
بيانات "الإعلام الحربي": العزّة الموثّقة!
22/11/2024
الإعلام المقاوم شريك الجهاد والتضحيات
20/11/2024
ما بين عامَي 1948 و2024 ما الذي تغيّر؟
20/11/2024