طوفان الأقصى
التجويع آخر أسلحة العدوان.. ومسرحيات الأقزام مفضوحة
إيهاب زكي
150 يومًا من عمليات القتل والتدمير والإيغال أكثر في عمليات إبادة جماعية ممنهجة، لم تستطع أن توقظ كثيرًا من النائمين في كومة اللحم المنتنة مترامية الأطراف أمة الذِلّة. ويبدو أنّ الشاعر الراحل مظفر النواب حين قال: "تتحرك دكّة غسل الموتى.. أمّا أنتم فلا تهتزّ لكم قصبة"، لم يكن يخاطب حكام الأمة فقط، بل أفرادها أيضًا فردًا فردًا، لا شيء تقدسه هذه الأمّة إلّا وداسته بساطير قوات العدو، ومع ذلك لم تهتزّ لها قصبة ولا حتّى حمرة خجل.
فئةٌ قليلةٌ تدافع عن غثاء السيل، فتيةٌ قليلون في غزّة ولبنان واليمن والعراق، يذيقون العدوّ من شديد بأسهم، وخلفهم أمةٌ من صويحبات يوسف، لا يعرفن إلّا الغواية خضوعًا أو الندّب إن شعرنَ بالخطر، هذه أمتكم حمّالات حطب، يضعنه شوكًا أو حريقًا في طريق كلّ من يقاوم، أمّة ترى أنّ رأس الحكمة في رؤوس حكّامها من أقزامٍ وأرذالٍ وأشباه بشر، ويا ليتهم ظلوا أشباه رجال كما وصفهم الرئيس السوري يومًا.
هذه الكتلة المنتنة المسماة شعوبًا وقبائل، غادرتها الحياة كما غادرها الحياء، ولا نعرف أيهما غادرها قبل، أمّة تجثو على ركبتيها لينزع منها العدوّ الشوى، تستسلم لكل عابرٍ لينزو بها، كيف لها أن تحرّك ساكنًا وهي ساكنة سكون المقابر، وكيف لعدوٍ أن يقيم لها وزنًا وهي لا تزن ذبابة، حكيمها له عقل سمكة وفارسها سلاحه الذلة والاستقزام، ملوكها يعتلون عروشًا من ورق، والرؤساء فيها يجلسون على كراسٍ من سخامٍ وعار.
في مشهدٍ عبثيٍ يستعصي على ذوي الألباب، طائرات عربية تطير محمّلة بشحناتٍ من طعام، تستأذن العدوّ ألف مرة، تستأذنه بعدد براغي الطائرة وعدد ما تحمل من حبات أرزٍ وذرات دقيق، تستأذنه لتدخل على بطنها زحفًا على أرضٍ أبت الذلّة والانبطاح، ولتلقي حمولتها مرةً في عرض البحر ومرةً في الأرض المحتلة، فينتشي المغيبون ويطبّل الساقطون أن سمح لهم العدوّ بأن تطير طائرتهم، فيرفّه الملك عن نفسه ويتخلص من ملل المُلك وحكم كائناتٍ تزعجه بالطاعة العمياء.
ثم يأتي عربٌ آخرون، أزّتهم الغيرة النكائية، "غيرة الحماوات النكدات"، رئيسهم يشترك بالعدوان بإغلاق المعبر، فيعلنون أنّهم يريدون إنزالًا جويًا، ليقفوا على الشرفات ويستمتعوا برؤية رئيسهم يُسقط المساعدات من الطائرة على الجوعى خلف الجدار، الجوعى الذين لا يريدون الموت بصمت، حتّى يتفرغ الكيان المؤقت لاغتصابهم فردًا فردًا، فهؤلاء الصامدون يعملون على تأخير وصول الكيان لهم، وهم ملّوا انتظارًا وملّوا تزينًا في انتظاره.
من يستمع ويشاهد الإعلام في مصر، حتّى لا أقول الإعلام المصري، لشدة الهول في أن تكون مصر في خندق الكيان، من يستمع ويشاهد هؤلاء يعتقد أنّ الصهيونية عدوى تنتقل بسهولة، كما أنّ السذاجة والسطحية والشعبوية أشد أسلحتهم فتكًا، حيث يخاطبون جمهورًا يقطعون بأنّه مجموعة من شياطين بلهاء، لا عقل ولا ضمير.
في قطاع غزّة وفي ظلّ هذه المرحلة من العدوان، لم يعد أمام الكيان المؤقت ما يستطيع فعله ميدانيًا، فالعجز العسكري والاستخباري لم يعودا بحاجةٍ لأيّ إثباتٍ نظري، حيث تكفي النظرة الشاملة للواقع لنتلمس ذلك العجز، لذلك لم يعد لديه من أوراق ضغطٍ لاستغلالها على طاولة التفاوض سوى الخيانات العربية الموزعة بين صمت كتل اللحم المتحركة – هي الشعوب اصطلاحًا والأقزام المتطاولة الحكّام اصطلاحًا، وذلك عبر استخدام سلاح التجويع وتشديد الحصار، مع بهلوانياتٍ سخيفة عبر إنزال المساعدات جوًا.
وبحسب تصريحات كلّ المسؤولين الأميركيين، والذين هم أصحاب قرار الحرب ومواصلة العدوان، هم يجعلون من إدخال المساعدات وإنهاء الحصار ثمنًا لاستسلام المقاومة، وهذا يعني أنّهم أدركوا أنّ الميدان لم يعد قادرًا على منحهم إلّا المزيد من الفشل، ولم يعد أمامهم سوى التعويل على التجويع للحصول على ما عجزوا عنه ميدانيًا، ويركنون إلى تواطؤ أعراب الردّة.
والحقيقة أنّه لا مناص أمامهم من الهزيمة، هزيمة كان بالإمكان أن تكون مشرّفة في ما لو لم يكابروا ويعاندوا، لكنّها ستصبح أكثر عارًا وإذلالًا كلما ازدادوا عنادًا واستكبارًا، وهذا يقينٌ يحاولون التملص من تبعاته، عبر الضغط المكثف في الملف الإنساني، ويظنون أنّ الجوع بحدّ ذاته سلاحٌ فتاك يؤدي إلى الاستسلام، فضلًا عن تبعاته المتوخاة من تكالبٍ يؤدي إلى فوضى اجتماعية وأمنية، وبالتالي تذهب المقاومة لتقديم التنازلات.
ولكن ما لا يدركونه هو أنّ الثمن قد دُفع، وأنّ غزّة دفعت ثمنًا لا يجوز معه التنازل قيد أنملة، بل أنّه ثمن يجعل من المفاوض أكثر تشددًا وأكثر تطلعًا لما هو أكبر، مع أنّ ما دفعته غزّة لا ثمن يوازيه إلّا التحرير الناجز، ومن دفع هذه الأثمان في غزّة من مجتمعٍ وبيئةٍ حاضنة، لن يقبل من المقاومة بأقل من النصر الواضح والمشرّف، وأن تجثو "إسرائيل" على ركبتيها تمهيدًا لقطع رأسها.
إنّ طوفان الأقصى حربٌ بدأت ولن تنتهي كما نكرّر دومًا، وأنّ المقاومة بمحورها تدرك ذلك، خصوصًا أنّ الولايات المتحدة أيقنت أنّه لا بديل عن إعلان الهزيمة، سوى الاستمرار في الحرب، وهذا يجعل المنطقة على موعدٍ مع مفاجآتٍ من العيار الثقيل، وأنّ هذا الإصرار الأميركي على عدم الإقدام على خطوة إعلان هزيمة الكيان، لأنّ تداعيات الأمر أخطر من أن تُعد أو تُحصى، هذا الإصرار يجعل من هاجس توسّع رقعة الحرب خطرًا قائمًا وحقيقيًا على الوجود الأميركي في المنطقة، وبالطبع خطر زوال الكيان.
غزّة ستنتصر حتمًا، وهذه ليست أمنيات، بل حقائق صلبة، وكلّ من يريد أن يضع له مكانًا من الساعين لحيازة الأمكنة، عليه أن يتصرف وفقًا لحقيقة أنّ المقاومة ستنتصر أينما ألقت الحرب أوزارها وأيّما طال أوانها، وأنّ الكيان منهزمٌ قطعًا بكلّ ما أوتي من ولاياتٍ متحدة وبريطانيا وغرب.