آراء وتحليلات
رأس الحكمة.. إغراق مصر بالديون وشبهات عديدة
أحمد فؤاد
ورد عن رسول الله (ص) حديثه الشريف "رأس الحكمة مخافة الله".. مبتدأ الفعل الإيماني العادي، وقد وردت الجملة ذاتها في الأناجيل، بشكل يجعلها حكمة إلهية صافية حثّ عليها الرسل والأنبياء، في أن ينطلق الإنسان من هذه الفكرة ليضع كلّ تصرفاته تحت ظلها ورقابتها وفي حدودها، فرأس الحكمة أن تخشى الله في نفسك وفي من تكون مسؤولًا عنهم، وأن تخشاه في من هم حولك وأهلك، عند انعكاس هذا المعنى قد تكون وصلت لمعنى الحكمة.
في مصر، اليوم، لا تعني كلمة رأس الحكمة شيئًا سوى "صفقة مريبة" تدخّلت فيها الإمارات حليف أو مُشَغِّل النظام المصري البائس، لتضخّ عشرات مليارات الدولارات في مفاصل الاقتصاد الذي يوشك على الانهيار تمامًا، والفضل الأول في عجزه الشديد ووصوله لهذه الحال هي بالطبع أولويات نظام الحكم وحكمته البالغة التي أوردت البلد العربي الأكبر سكانًا والغني بموارده وإمكاناته إلى صحراء التيه، فلم يعد هناك من مصير سوى مهلكة في هذا التيه، أو مذبحة باردة في عراء الجوع.
مع أن التاريخ يخبرنا أنه لا يتعلم أحد من التاريخ، إلا أنه يمكن فهم الكثير من الألغاز المحيطة بصفقة "رأس الحكمة" بالنظر إلى العشرية السوداء التي جلس فيها الجنرال على كرسي الحكم، فقد سبق وأن تحصّلت مصر على قروض ضخمة وغير مسبوقة، ومن الدول الخليجية، نحو 15 مليار دولار في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي 2015، ثمّ جرى تبديدها بسرعة تضاهي سرعة الضوء، ثمّ عقدت أقذر صفقة في تاريخ مصر كله، قديمًا وحديثًا، في 2016 لبيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، لتتخلى مصر عن أحد أهم أوراق قوتها في البحر الأحمر، والثمن كان طبقًا للتقارير السعودية 25 مليار دولار، كانت ثمنًا لإنجاز ابن سلمان الوحيد في المنطقة، ونجاحه الأول والأخير.
الإعلان عن صفقة "رأس الحكمة" ومن ثاني أهم مسؤول في الدولة –إن كانت دولة - رئيس وزرائها، جاء مبهمًا يفتقد للعديد من الإجابات أو التوضيحات، كيف سيكون شكل المشروع؟ هل ستنتقل ملكية الأرض؟ هل سيضمن هذا المشروع بتكاليفه الخرافية وغير المسبوقة إنشاء صناعات؟ أم أنه مجرد إعادة لكرة إنشاء عاصمة جديدة في الصحراء؟ ابتلعت الموارد بعنف لا حدود له؟ ثمّ هي لا تجد سكانًا من الأصل؟ ما هو الاستثمار المنتظر؟ وكيف سيحصل المستثمر على أرباحه؟ أو ما هي بالتحديد أرباحه وأهدافه من المشروع؟ هل تقوم الإمارات أو غيرها بعمل خيري يتكلّف هذه المبالغ؟
رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي قال إن الاستثمارات ستبلغ 35 مليار دولار خلال شهرين، وسيجري تحويل 11 مليار دولار من الوديعة الإماراتية الموجودة في البنك المركزي إلى استثمارات بالمشروع.. ثمّ "توقّع" أن يبلغ حجم المشروع بأكمله 150 مليار دولار، معقبًا بأن رئيسه قد بذل جهدًا غير عادي لتحقيق هذا الإنجاز، وهذا المشروع التنموي الكبير هو ثمرة العلاقة بين البلدين، وبمنتهى اليقين فإنه إما من وضع هذه الفقرة في حديث "مدبولي" مجنون، أو نكون نحن المجانين، لنتصور أي مشروع بتكلفة 35 مليار سيدر أرباحًا بـ 150 مليار دولار في 5 سنوات.
بيان مدبولي لو كان يثبت شيئًا واحدًا، فهو يقول مرة واحدة إن مصر تقزّمت، إذا كان رئيس الوزراء المصري لا يعلم أن "الشقيق الإماراتي" يعمل ضدّ مصالحه الأمنية والاستراتيجية وحتّى ضروريات حياته في نهر النيل، عبر تحالفات مع حميدتي في السودان وأبي أحمد في أثيوبيا وميليشيات في ليبيا، وهو يرى بعد كلّ ذلك أنه شقيق، فماذا ومن يكون العدوّ إذًا؟
وحديث الأرقام المجردة وحده ينسف كلّ ما قاله رئيس الوزراء المصري عن إجمالي استثمارات المشروع، وهي تقديرات شاذة تمامًا كمن وضعها أو تخيل تمريرها، الناتج المحلي الإجمالي للإمارات –على أساس تعادل القدرة الشرائية PPP - يبلغ 405.77 مليار دولار، وهو يحتل المرتبة الثانية عربيًا قبل مصر التي يبلغ ناتجها –وفقًا للطريقة ذاتها في 2020، نحو 302.25 مليار دولار، والأرقام التي عرضت لا يقبلها عقل سليم أو منطق يفهم ويعي.
النقطة الثانية في أرقام مدبولي هي أنه مهما بلغت ضخامة هذا "الاستثمار المفترض" إذ لا توجد طريقة لمعرفة هل سيحدث أم لا، حتّى آخر لحظة، هو أن التزامات ومدفوعات الديون الخارجية المصرية سوف تبتلعه في عدة شهور، خلال العام الجاري 2024، يستحق على مصر 42.3 مليار دولار من أقساط الديون وفوائدها، وتلك وحدها بركات الزعيم الملهم الذي رفع الديون الخارجية المصرية في 10 سنوات من 46.1 مليار دولار إلى 167 مليار دولار اليوم.
ما هو معلن عن الصفقة لا يرتقي بذاته ليكون إجابات عن أي شيء، بل هو كله يدفع للمزيد من التساؤلات، في ظلّ حقيقة ثابتة ومجرّبة، وهي أن هذا النظام غير أمين على القرار الوطني ولا الاستقلال الوطني، وأن غاية فعله هو اغتيال أي بوادر مستقبل أمام مصر، ومصادرة خياراتها عن طريق ربطها بقيود ديون هائلة جديدة تُضاف إلى أثقال ديون ضخمة قائمة، حيث تبقى دائمًا الطرف الأكثر استعدادًا لتحقيق الرغبات الأميركية بحماس وإخلاص.
آخر ما يمكن قوله هو أن استهداف الشمال الغربي لمصر، إذ يمتد مشروع "رأس الحكمة" المفترض على مساحة 170 مليون متر مربع، وهو قنطرة أو منطقة ربط بين كلّ دول شمال إفريقيا، مصر وليبيا وتونس والجزائر، وهذه المنطقة في المخطّط الأميركي بقربها من أوروبا وبامتدادها على الساحل الجنوبي العربي على البحر المتوسط، وبالفوضى التي تضرب ليبيا وتفتح مجالات العمل القذر ضدّ الشعوب العربية، قد تتحوّل بين ليلة وضحاها إلى نسخة جديدة من سيناء، حيث القوات الأميركية وقواعدها موجودة مهما كان العلم الذي ترفعه فوقها، ودخول الجيش إليها محظور، وهي مجرد خطوة في مؤامرة أكبر تُرتّب للمنطقة الموبوءة بحكّام العورة والعار.
ليس مستبعدًا أن تستبعد أي شيء، إذا تعلق طرفا الفعل بالنظام المصري والمال، كلّ شيء قابل للبيع ومعروض في السوق، وبأبخس الأثمان، لا يفرق هنا أرض أم وطن أم شعب أم دور وتاريخ وانتماء وأخلاق وشرف، أي شيء في يد السماسرة هو قابل للبيع متى توفّر الثمن.
ليس بعيدًا أيضًا أن تكون هذه الاستثمارات هي التغطية المطلوبة من نظام كامب ديفيد، في نسخته الأسوأ والأوقح، للحصول على صك التمرير الشعبي لخطة القبول بمشروع تهجير أهالي غزّة الكرام إلى سيناء، قطعًا الهدف الصهيوني يناقض مصالح فلسطين ويشكك في صمودها وثباتها وتمسكها بأرضها وقضيتها، وأول من طرح الكذبة الفاجرة كان النظام المصري عبر إعلامه، ليتلقفه العدوّ كهدية فاخرة، بما يراه يحقق مصالحه هو من محاولاته الخائبة للقضاء على المقاومة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024