آراء وتحليلات
الاقتصاد.. الهزيمة الأخرى
أحمد فؤاد
مع وصول "طوفان الأقصى"، صراع الأمة الوجودي مع عدوها اللدود، لقرب عتبة 130 يومًا، كثاني أطول جولة حرب بعد النكبة -حرب 1948- والتي استمرت عامًا و7 شهور بفواصل زمنية، وما تحقق فيها من تأثير مدوٍ بفعل ما استدعته قضية فلسطين من آمال تبعث بزمن عنفوان عربي قادر على سحق إرادة أميركا وأوروبا، ويحمل ثورة لإسقاط سنوات الظلم والقهر والسجن في أقبية الغيبوبة العربية الجماعية والتشتت والتلهي، فقد جاء الوقت الذي يعاين فيه الوجدان الجمعي العربي صورة حقيقية لـ "سقوط إسرائيل" بصفته واقعًا قد تحقق.
الاقتصاد الصهيوني كان ثاني قلعة وهم سقطت، بعد كذبة التفوق العسكري النوعي للكيان وسلاحه على العالم العربي مجتمعًا. في الحقيقة فإن ما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو هجوم عسكري خاطف، باستخدام 1000 - 1200 عنصر مقاتل، تمكّنوا في ساعة من تحطيم جدار الردع واكتساح فرقة غزّة التابعة لجيش العدو، وهنا مع رد العدوّ العاجز انهارت أساطيره وظنونه الواحدة تلو الأخرى.
حين أعلن مجلس وزراء العدوّ حالة الحرب، بكلّ ما تستتبعه من استدعاء الاحتياطي وتحويل الكيان إلى صورته الأولى المجردة "قاعدة عسكرية أكبر من اللزوم"، ومع استمرار القتال على جبهتي غزّة وجنوب لبنان طوال الوقت، والضربات التي يتلقاها كيان العدوّ من العراق صاروخيًا، ومن اليمن بالقصف والحصار، فإننا كنا أمام لحظة إعادة تشكيل واكتشاف الواقع العربي كما هو. إن محور المقاومة يستطيع بموارده الذاتية المحدودة القضاء على هذا "البعبع" الذي تربى ونما على مخاوفنا وتراجعنا واستسلامنا، وأنه حتّى حين دخلت إمبراطورية الشر الأميركية بكلّ قواها لنجدة حليفها المنهار، فإنها عاجزة عن فرض حمايتها، حتّى على قواعدها هي.
الاقتصاد كعلم هو مقياس محايد للوضع الصهيوني الحالي، لا يكذب مهما تجمل، وآخر التقارير الصادرة عن مستقبل الاقتصاد في الكيان من "وكالة بلومبرغ" تقول إن الحرب التي يخوضها الكيان قد ضربت اقتصاده في مقتل، وتؤكد أن الكيان يسير نحو واحدة من أضخم حالات العجز في هذا القرن، وتوقعت أن يبلغ إصدار سندات الديون في الكيان لعام 2024 وحده نحو 210 مليارات شيكل - 58 مليار دولار - وليس من المؤكد بالطبع أن هذه الخسائر هي "كل" مصائب الاقتصاد الصهيوني.
"العجز" الذي سقط فيه اقتصاد العدوّ ليس نتيجة مباشرة لعملية "طوفان الأقصى"، لكنّه في الأصل وعند أساسه تمامًا هو تعرية المقاومة لعوامل هشاشة الكيان. نحن لسنا أمام دولة تنهار بالكامل ومن الداخل، وهي ليست كأي دولة في العالم أو في التاريخ قد تتعرض لهجوم عسكري مهما كان مداه أو تأثيره، ومهما سقط من جنودها عند خطوط القتال، فإن الحرب في بعض الأوقات أفضل أوقات الشعوب للنهوض والعمل ومجابهة التحديات، لكن الكيان لم ولن يكون دولة ولا حتّى شبه دولة.
كيان العدوّ يقوم على فكرة بن غوريون الشيطانية "الأمة في صورة جيش والجيش في صورة أمة"، وهي تعني أن كلّ شخص في الكيان هو تحت الخدمة العسكرية. وهذه الفكرة بالذات مع إعلان حرب تقوم بسحب عشرات الآلاف من العمال والمزارعين والموظفين من القطاعات الانتاجية، وبالتالي تسبب "شللًا كاملًا" للاقتصاد، تقرير بلومبرغ أشار فقط إلى الجزء الظاهر من جبل الجليد، سيخسر الكيان مباشرة أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وسيدخل في دوامة من تراجع معدلات النموّ وصولًا إلى حالة كساد مؤكد، هذا إن توقفت الحرب اليوم.
ما هو أبعد وأهم هو أن الكيان سيفقد جاذبيته بالنسبة للاستثمارات ورؤوس الأموال والكفاءات البشرية، التي لا تأتي في ظلّ ظروف توتر وحروب، بفعل انهيار صورة الكيان كواحة آمنة في الشرق الأوسط الذي تضربه الأعاصير خارجها، ثمّ إن الحصار اليمني والإجرام الصهيوني غير المسبوق في غزّة، تفاعلا معًا ليخرجا بنتيجة قريبة أيضًا، وهي أن تعاملات الكيان التجارية مع كلّ دول العالم صارت أضيق وأقل.
الكيان الذي يمثل بامتياز حملًا تلفيقيًا خارج الرحم، ودولة شاذة مفروضة على محيط عربي واسع، كان ولا يزال يتلقى الدعم من الغرب، والولايات المتحدة الأميركية بالذات، ثمنًا معقولًا كقاعدة عسكرية استراتيجية متقدمة للسيطرة على الشرق الأوسط. ومن نتائج زلزال "طوفان الأقصى" المباشرة، هو أن تلك الفكرة ضربت تمامًا، والغرب اليوم لن يتحمل أن يبقى الكيان عبئًا عليه لمدة مفتوحة لا أحد يعلم مداها، إذا كانت فشلت في القيام بدورها المطلوب.
في قلب أزمة الاقتصاد أيضًا، فإن أول وأكثر الكلمات تردّدًا في الإعلام الصهيوني منذ السابع من أكتوبر المبارك، وإلى اليوم، هي كلمة الخطر الوجودي؛ هم يستشعرون أن كلّ هذا البناء على أرض الغير، وهم إن كانوا قد نجحوا في خطوة انتزاع هذا الحق/ الأرض، فإن صاحبها لم يسلم ولم ييأس، وحتّى السلاح لا يعطي المستوطن يقين شرعية الوجود، وهم في داخلهم يعرفون أنهم حالة طارئة، وستزول.
..
رغم كلّ ما تحقق للعالم العربي من إنجاز حقيقي، ولد في لحظة نور ومجد بالمقاومة وعبرها، لا يزال طرف واحد من أطراف الصراع مصممًا على نشر صراخه المستجدي الذليل بطول الوطن العربي وعرضه، مؤمنًا بحق سيده الأميركي في كلّ ذرة داخل نفسه وكيانه وبلده، مدافعًا مكرسًا عن هذا الوثن من أي فرصة قد تتاح لآخرين لمعاينة الحقيقة ولمسها كما هي في الواقع، واقفًا وحده وداعيًا الكل للتوقف وحده، مهما كانت القيم العليا كالإنسانية والأخلاق والشرف الإنساني بمعناه المبسط جدًا داعية إلى الحل الجماعي لأزمة هذا الجزء من العالم كله ضرورية، كضرورة الهواء لاستمرار البقاء.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024