معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

محكمة العدل وشمائل محور المقاومة كروافع ‎
01/02/2024

محكمة العدل وشمائل محور المقاومة كروافع ‎

يونس عودة

لم يكن الرهان جازمًا، بأن تقوم محكمة العدل الدوليّة في لاهاي بإصدار أي قرار أو توصية أكثر مما كان، أو إصدار قرار واضح بمفاعيل جدية سواء في معاقبة "إسرائيل" لارتكابها إبادة جماعية موصوفة ضدّ الفلسطينيين رغم كلّ القرائن المتوافرة، لا بل أعطت مهلة شهر لقادة الاحتلال لتوضيب أمور الجرائم ضدّ الإنسانيّة والإبادة الجماعية، والتي ستكون لاحقًا بكليتها مدار البحث القانونيّ.

إن الأدلة التي قدمتها دولة جنوب إفريقيا، غير قابلة للشك، أو الدحض، لا سيما أنها تستند في ارتكاب الجرائم إلى تصريحات قادة الاحتلال بالقتل والتفاخر بالقتل، وعلى رأس هؤلاء المتبجحين بنيامين نتنياهو، وأعضاء في حكومته ربطًا بما كانت تقوم به الطائرات والمدافع والصواريخ وتصرفات العسكريين في الأرض.

لقد تخوفت "إسرائيل" فعلًا، وللمرة الأولى من إنشائها على أرض فلسطين، من أن تصدر محكمة العدل الدوليّة، قرارًا يؤكد أنّها ترتكب إبادة جماعية، ولذلك عليها وقف الحرب على غزّة. وبعد صدور قرار المحكمة، الذي يفتح الطريق إلى محاكمات جدية، إذا لم يستجب المحتلّون الذين تتبنى مجازرهم الولايات المتحدة وتدافع بوقاحة عن الارتكابات الشائنة بحقّ الإنسانيّة على أنها أعمال حربية، وليس فيها إبادة جماعية.

لم يكن مفاجئًا أيضًا الهجوم الإسرائيلي على المحكمة، وما صدر عنها، وصولًا إلى تكرار المعزوفة المشروخة، التي تلطت خلفها الآلة السياسية والعسكرية والأمنية الإعلامية للكيان، أي "معاداة السامية". إلا أن الهجوم صاحبته حملة أكاذيب لم تمر في الأصل على المحكمة، إذ قال مسؤولون سياسيون إسرائيليون إن "هذا قرار جيد جدًّا نسبيًّا. وربما هو الأفضل الذي بإمكاننا أن نحصل عليه، لأن جنوب إفريقيا فشلت في محاولة وقف الحرب". وقد ادّعى هؤلاء المسؤولون أن "المطالب جميعها هي أمور ملتزمة "إسرائيل" بها أصلًا. ولا يوجد هنا وقف للقتال وشيء ما يمنعنا عمليًّا من القيام بشيء مما نفعله. والقتال سيستمر كالمعتاد".

وزعم رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، "أن الادّعاء بأن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين ليس كاذبًا فحسب، بل إنه أمر شائن، واستعداد المحكمة لمناقشته إطلاقا، وصمة عار لن تُمحى على مرّ الأجيال". وأضاف نتنياهو: "سنواصل الحرب حتّى نهزم حماس ونعيد المختطفين جميعهم، ونضمن أن غزّة لم تعد تشكّل تهديدًا لإسرائيل".

وادعى وزير الحرب، يوآف غالانت، في بيان أن "دولة "إسرائيل" ليست بحاجة إلى وعظ أخلاقيّ كي تفرق بين الإرهاب والسكان المدنيين في غزّة. والمحكمة الدوليّة في لاهاي خانت وظيفتها عندما استجابت للطلب المعادي للسامية الذي قدمته جنوب إفريقيا بالنظر في ادعاء إبادة جماعية في غزّة، وزادت الطين بلة عندما لم ترفض الدعوى".

هذا الكلام الإسرائيلي الممجوج، لم يعد مؤثرًا في غالبية العالم الذي استيقظ نسبيًّا أمام الحقائق والوقائع، التي بادرت إلى حملها دولة جنوب إفريقيا، وتمكّنت من جلب الكيان القاتل إلى منصة عدالة، ولو أنها لا تكتمل الأركان المطلوبة، وهو أمر مفهوم باعتبار المحكمة أصلًا من نتاج الغرب، الذي طالما عمل على استخدامها لمحاكمة من يراه معاديًا لمصالحه، لكن بفضل الاستفاقة العالمية، بات الأمر متاحًا بقدرة ما على استخدام الهيئات التي أنشأها الغرب، في سياقها العدلي الصحيح لا سيما أن الغرب الذي لا يزال يرفض وقف إطلاق النار، لم يعد قادرًا على التواطؤ أو دحض حقيقة الإبادة الجماعية، وهو الأمر الذي أقر به كتاب صهاينة مرموقون في تعليقهم على الأكاذيب التي ساقها محامو الدفاع الإسرائيليون أمام المحكمة التي أكدت في بداية القرار اختصاصها القضائي في نظر دعوى جنوب إفريقيا ضدّ "إسرائيل" بارتكاب إبادة جماعية، ورفضت طلب "إسرائيل" سحب دعوى جنوب إفريقيا.

 لقد أشار الكاتب الإسرائيلي بي مايكل إلى المستوى الهائل لكذب فريق الدفاع الإسرائيلي، أمام محكمة العدل الدوليّة، إذ قال في صحيفة "هآرتس": "لو وُصِّل جهاز كشف الكذب بأحد المحامين الإسرائيليين في أثناء خطاباته (أمام المحكمة) لانهارت شبكة الكهرباء في لاهاي، وبقيت المدينة في الظلام حتّى يومنا هذا"، وتابع متهكّمًا: "ولحظ "إسرائيل" أيضًا اختارت جنوب إفريقيا لسبب غير واضح التركيز بشكل شبه كامل على ما يحدث في غزّة عوضًا عن الحديث عما يحدث في جميع الأراضي المحتلّة، غزّة والضفّة الغربية والقدس، لأن الأمر يتعلق بأمة واحدة يُداس أفرادها تحت أحذية المحتلّ نفسه".

ورأى أنه "من دلائل الخبث والشر، أن "إسرائيل" أنكرت لسنوات وجود الشعب الفلسطيني، وبذلت جهودًا حثيثة لإنكار وجوده في الوعي العام والخطاب، وأصدرت قوانين لتشريع سرقة جميع ممتلكاته، حتّى جعلت سرقة أراضيه عملًا مقدًسا، بل إن حياته صارت لعبة عادلة، لدرجة أنه أصبح بإمكان أي طفل يحمل مسدسًا أن يطلق النار على الفلسطيني متى ما شاء، ويكفي أن يقول "شعرت بالتهديد" ليتمتع بالحصانة".

إن أهم ما أسقطته محكمة العدل الدوليّة من خارج ما اتّخذته من مقررات، يتمثل في إسقاط أهم أركان الدعاية الصهيونية - الأميركية القائمة على مقولة "معاداة السامية"، من جهة، وأن النظام الصهيوني يقوم في أصله على المجازر، وتغطية الجرائم بالسطوة الغربية التي تقودها أميركا على العالم، كما أن الساعين إلى الحرية والاستقلال مهما كان الثمن باهظ، هم أخلاقيون، وإنسانيّون خلال المواجهة، وأن الكراهية ليست لليهود، وإنما للجرائم والمجرمين.

لقد اعتبر مسؤولون إسرائيليون أن قرار محكمة العدل الدولية "ألحق ضررًا كبيرًا بصورة إسرائيل"، وهي الصورة القائمة على الأضاليل. بالمقابل فإن سياسة الهروب إلى الأمام مع التمادي في الجرائم بقيت هي الناظمة للعقل الأميركي - الإسرائيلي، وقد أقدمت قوات الاحتلال على ارتكاب مجازر جديدة ضدّ المدنيين الفلسطينيين بالتوازي مع قرارات المحكمة الدوليّة الداعية إلى وقف القتل، بحيث ذهب عشرات الضحايا بقصف جوي واضح المعالم والقرار، وبالتوازي أيضًا مع صفقة سلاح أميركية جديدة للكيان تشمل عددًا كبيرًا من الطائرات.

وتشمل الصفقة تزويد "إسرائيل" بسرب من الطائرات المقاتلة الحديثة " F35"، (F15 AI)، كما تشمل سربًا من الطائرات المروحية الحربية "أباتشي"، يضم 18 مقاتلة على الأقل، إضافة إلى تزويد "الجيش الإسرائيلي" بعشرات الآلاف من مختلف أنواع الذخيرة. وسيتم تزويد "إسرائيل" بالطائرات في أقرب وقت ممكن، بما في ذلك من المخزون الذي يتملكه الجيش الأميركي.

ليس لكل ذلك سوى سبب واحد ألا وهو ضياع كلّ أمل في وقف الهزيمة سواء أخلاقًّيا، أو ثقافيًّا أو في الميدان، وهو، أي الميدان الذي صنع الهزائم كلها، جراء الدقة المحترفة، والحكمة الاستثنائية الواسعة المدارك لمحور المقاومة الذي أخذ على عاتقه مواجهة الشر أينما كان بأخلاق وصدق وإخلاص وإعداد ما استطاع من قوة، ولولا هذه الشمائل لما كانت الروافع التي ركنت إليها محكمة العدل الدوليّة، في قبول دعوى جنوب إفريقيا ووضع "إسرائيل" على القوس.

لاهايالقانون الدولي

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة