معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

كلمة السيد.. بداية النهاية
23/01/2024

كلمة السيد.. بداية النهاية

أحمد فؤاد

ليس ما يحدث لكيان العدو والمنطقة العربية كلها "صدفة" وقعت فجأة في يوم السابع من أكتوبر الماضي. فكرة الصدفة كما يرتاح إليها المنافق وتأمن روحه، لا توجد في قاموس القوى المقاومة الفاعلة اليوم، بل يوجد الركن القوي المتين "الإيمان" بشعلته القدسية الفوارة، عنفوان الإنسان المسلم وزهوه واقتداره، سعيه الدؤوب لحلم الخلاص، جهاده الأكبر في وجه شياطين ودجالي كل العصور، الذين اجتمعوا على فلسطين اليوم، كما اجتمعت لها الملائكة، والمسلم لا يختار خندقه في معركة القدس الحالية بناء على المبدأ الديني الأول الذي يتعلمه مع نطق أول لفظ بشهادة التوحيد "لا"، ورفضها المجلجل المهيب، لكنه أيضًا يسعى ويكد ويعمل في ضوء رؤية مستبصرة وعميقة للمصير المحتوم لانتصار الحق، ولو عبر بوابات الموت نفسها.

بعد أكثر من مئة يوم على الانطلاقة المباركة لعملية "طوفان الأقصى" كواحدة من أطول وأعظم أيام العرب في تاريخهم الحديث، فقد بدأ العدو يتآكل ذاتيًا وتذوب إرادة القتال لديه في خضم الفوضى وتغرق، وبدلًا من أن تكبت الحرب الخلافات السياسية فإنها تزداد في "تل أبيب"، وفيما بين أعضاء مجلس الحرب الصهيوني ذاته، وهو الذي يقود الكيان سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا، وجلساته وما ينشر عنها في إعلام العدو وعبر تقاريره وآراء محلليه لا تقول إن العالم العربي قد يجد فرصة أثمن من هذه لإبقاء شعلة انتصاره حية متقدة، وانتزاع كل حق له دفعة واحدة.

هذا ليس تحليلًا أو اجتهادًا شخصيًا، لكنه ملخص الجلسة العاصفة الأخيرة بين يوآف غالانت وبنيامين نتنياهو، والتي وصفها موقع "واللا" العربي بأنها كانت اشتباكًا بالأيدي وتهديدات، فضلًا عما نقله الموقع ذاته من مواقف صراع شديد الحدة بين غادي إيزنكوت عضو مجلس الحرب وبين رئيس الوزراء ووزير الحرب، ومواقفهم كلهم تلخص "صراع مصالح" أقرب للانتماء إلى نزاع بين قبائل، تريد أن توفر لنفسها فرصة الربح على جثة هزيمة محققة، يرونها جميعًا ويريدون الظفر قبلها بأي غنيمة ممكنة.

لم يكن الموقف الأميركي المبدئي إلا تكملة وتتمة لهذا الصراع الداخلي الصهيوني، والذي فقد مقدمًا قدراته ويقف في حالة أقرب للمشدوه الذاهل بما يقع حوله منذ اللحظة الأولى لـ"طوفان الأقصى"، عند أول رصاصة ومع حركة أول مقاوم، فإن الكيان تلقى هزيمة قاطعة حاسمة واضحة، وبالتالي فإن الموقف الأميركي اليوم تماهيًا مع الفشل الصهيوني في الميدان يكون أقرب إلى حالة امتصاص الصدمة، ومحاولة البحث عن "تهدئة"، تتوقف خلالها الضغوط وتنزاح عن أعصاب العدو التي فقدها تمامًا أمام محور المقاومة.

الاتجاه الأميركي الجديد لخصه وزير الخارجية أنطوني بلينكن، خلال مشاركته في مؤتمر "دافوس" حين قال: "إنه يجب على إسرائيل اتخاذ قرارات صعبة، حين يتعلق الأمر بمرحلة أولى من بلورة عملية سلام"، ويظهر كما تنشر الصحف الأميركية أنه قد صدرت الأوامر من واشنطن إلى أتباعها من الحكام العرب رخاص النفوس والدين والنخوة، بالبدء في طرح صيغة لوقف القتال عند الحدود الحالية وبالطبع الإفراج عن الأسرى الصهاينة من غزة، وهذه الصيغة تترك مجالًا واسعًا للاجتهاد في تفسيرها، سواء ما يتعلق ببقاء حكم حماس من عدمه، وتمنح الجميع فرصة تفسيرها كما يتراءى لهم، لكنها أولًا تبحث عن وقف القتال.

إذًا فالمصلحة الصهيونية، والأميركية من قبلها، هي وقف الحرب الآن، لأنها تحولت إلى حرب استنزاف مريرة سواء بالنسبة للعدو أو للطرف الأميركي الذي بدأ يظهر عليه الاهتراء والضعف، خصوصًا عقب التدخلات المباشرة التي أعقبت تهديداته الفارغة في لبنان واليمن، ودخول المقاومة العراقية على الخط كطرف رابع في معركة المقاومة ونيرانها وحمم يقينها الحارق نحو مدن فلسطين المحتلة، وعزمها الراسخ الذي لا يلين أمام الطبل الأميركي الأجوف، مع زوال أسباب الهيبة الحقيقية، واعتماد واشنطن على استدعاء مخزون جبروت من زمن انقضى وفات، كان يستمد فيها أفتك أسلحته من ضعفنا وتراجعنا المساوم والمستمر.

حرب الاستنزاف تحولت إلى حقيقة واقعة في كيان العدو، مع بداية انخراط حزب الله شمالًا في يوم الثامن من تشرين الأول، وفتح جبهة ثانية للصراع العسكري، فإن جذر فكرة إقامة "إسرائيل" كـ "ملجأ آمن" لكل يهودي في العالم قد تبخرت عمليًا، وفضحت وهتكت على الملأ، هذا الدخول المبارك في ساحة الصراع لم يتوقف على كونه ردعًا للكيان ولجيشه، وفقط، لكنه تحول إلى بداية جديدة للصراع وانتقل به من مرحلة حرب محدودة في غزة -مهما بلغت تكاليفها أو طال مداها- إلى حرب واسعة على عدة جبهات، أثارت أعمق المخاوف العظمى لدى كل مغتصب في الكيان، وهو أنه يعيش وسط محيط عربي معادٍ له مترصد، يضع كل إمكانياته في خدمة هدف إزالة الكيان كـ "هدف واضح ومحدد ودقيق"، وأنه لن يستمر بالحياة اعتمادًا على المعونة الغربية إذا لم يكن له أرض وجذور حقيقية غير مزيفة، ولا حتى على معونة الثقلين وإن اجتمعا.

لم يخسر الكيان آلاف القتلى، ولم يخسر عشرات أو مئات المليارات من الدولارات نتيجة لشل اقتصاده وضرب موانيه ومدنه، لم ينزف الكيان المال والدم، لكنه أصلًا ينزف في كل يوم وكل ساعة قتال إضافية فرصة وجوده بحد ذاتها، هذا أيضًا لا ينتمي لبند التحليل، بل هو الإعلام العبري الذي لا يتوقف منذ السابع من تشرين الأول عن ترديد كلمة "الخطر الوجودي" معبرًا عن أزمة الهزيمة التي وصلت إلى أعماقهم وضربت الشك في كل شيء جرى إنشاؤه أو تلميعه هناك ببريق يحاول أن يجعله حيًا أو حقيقيًا.

وإذًا أيضًا فإن المصلحة العربية العليا تقتضي الضغط ترويجًا ودفعًا لفكرة إبقاء شعلة الرفض عالية، واستمرار حرب الاستنزاف والصمود الحالية، عملًا بالقاعدة الذهبية لأمير المؤمنين –عليه السلام- "بإتباع سهام العدو"، إذ تتضح على العكس من الرغبة الصهيو-أميركية مصالحنا ويكمن مستقبلنا، والأثر المعنوي الذي يزيده "طوفان الأقصى" كل لحظة ألقًا في ضمير الأمة ووعيها، بكل التضحيات الزكية الغالية، هو أنه يتيح لها تصور طريق مغاير لعتبات المسلخ الدولي الذي يدعى زورًا بالشرعية، وأنه يقدم لها بالتجربة المباشرة القريبة المثال الحي الناصع على قدراتنا وإمكاناتنا الحقيقية، التي تفوق بكثير حالة الهوان التي زرعها داخلنا إعلام الترفيه والتفاهة العربي الرسمي المنحط السافل، وأن المقاومة تقدم لنا الفرصة لمعاينة "الخيار الوحيد الصحيح"، من قلب واقعنا وبأدواته، وأمام كل تحدياتنا.
..
يمكن للعقل بكثير من الثقة التي يحركها الإيمان المجرد، وتتنزه عن الانحياز العاطفي المندفع، أن يحكم بكثير من الهدوء على كيان العدو -الآن واليوم- بأنه يمر بلحظة ثقيلة، شديدة البطء والصعوبة، وأنها بالكامل لحظة أزمة لكيانه ذاته، ليس أقل، وأنها بالتالي لحظة نصر عربية وإسلامية مؤكدة، يقول بها العدو نفسه وعلى لسان حكامه ووزرائه ومحلليه وعسكرييه، لا نقولها ولا ندعيها عليه تجنيًا وتحيزًا لأنفسنا وقضيتنا الأولى المقدسة والمركزية، وأن كلمة سماحة السيد الأمين، سيد الوعد الصادق، السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله: "سنصلي في القدس" لم تكن بارقة أمل في ظلام اليأس الذي يحاول كسرنا، لكنها كانت حق يقين المؤمن الفاعل الإيجابي، وضميره اليقط ورسالته الجليلة، وهي ذاتها الكلمة التي أعاد سماحة الإمام القائد علي الخامئني –دام ظله- أن يؤكد عليها تثبيتًا وتركيزًا لهذا الوعي الإسلامي المتقد وروحه الوثابة وجسارة إرادته ونبل روحه وسموها وارتباطها المعنوي بالحق المنتظر.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل