آراء وتحليلات
كذبة التفوّق التي صنعناها
أحمد فؤاد
أطلّ الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في ذكرى شهادة اللواء قاسم سليماني والقائد أبو مهدي المهندس، وفي وقت تاريخي عصيب ومواجهة تتدافع بالنار والدم على طول المنطقة وعرضها، ليعيد إلى القلوب هدوئها، وإلى الأرواح ثقتها وثباتها، وإلى العيون فرصة معاينة نصر الله في قلب المحنة ذاتها، في غزة الصامدة وفي فلسطين، وفي جنوب لبنان، وفي العراق وفي اليمن، ليزيدنا اتصالًا وفهمًا لمعاني جليلة وسامية قد تحققت على يد أشرف أبناء الأمة وبتضحيات كبرى في قافلة الشهداء على طريق القدس.
وعد سماحة سيد الوعد الصادق أمّته التي كانت تنتظر فصل الخطاب، صدقًا وحبًا وكرامة، بالانتقام لجريمة العدو الغادر الأثيمة وغير المسبوقة باغتيال القائد الشيخ صالح العاروري في قلب الضاحية الأبية، بما نؤمن به قبل أن نصدقه، وبما يعلم العدو قبل القريب أنه سيقع لا محالة، وقرن الوعد بانتقاء جملة في نهاية خطابه يوم 3 كانون الثاني 2024، وقال سماحته نصًا: "إذا شُنت الحرب على لبنان فإنّ مقتضى المصالح اللبنانية أن نذهب بالحرب إلى الأخير، الجريمة لن تبقى من دون رد وعقاب وبيننا وبينكم الميدان والأيام والليالي".. هذه الكلمة تحتاج إلى أن نحفظها لنتلوها ونسطرها للأيام، لا تحتاج إلى إضاءة، فهي تخاطب روح الإنسان مباشرة.
في خطاب سماحة السيد أشار إلى نصر وإنجازات حقيقية، استطاع محور المقاومة انتزاعها من قلب العدو أو فرضها عليه، منها: "من نتائج طوفان الأقصى وما يجري على كلّ الجبهات كسر فكرة إسرائيل المقتدرة"، و"سقوط صورة إسرائيل في العالم التي عمل عليها الاعلام الغربي وجزء من الاعلام الرسمي العربي"، وهو بالفعل لبّ فكرة الانتصار الذي حققته المقاومة، والسبب الأول للمأساة العربية المروعة التي نعاينها في دول ما تزال تقرأ وتفكر وتعيش من المنهج الأميركي والمقرر الأميركي.
قبل أي حديث عن انهيار الكيان وهو نتيجة مباشرة لما جرى في "طوفان الأقصى"، وتبديد آخر أوهام البقاء أمام قطعان مستوطنيه، بناءً على أرقامهم وإحصاءاتهم –هم- الرسمية، لا بد من القول إن كل مقاوم في فلسطين ولبنان والعراق واليمن يقيم الحجة على شعوب الأمة، قبل أن تكون حجة على أنظمة وحكام وملوك التطبيع والخيانة والعار، لا يعوزكم شيء لتقاوموا، في كل الجبهات وفي مناخ غير مؤات، وبعد سنوات طويلة مريرة من الحصار والقتل البطيء والعقوبات، تمكّن محور المقاومة من صناعة "نموذج نصر" كامل، بالإيمان وبالدم فقط.
تسجل 75 عامًا سوداء، هي سنوات عمر كيان العدو المزروع شيطانيًا على أرض فلسطين العربية، بالتضاد مع التاريخ والجغرافيا وسكان الأرض، أكبر دعم له من الأنظمة الرسمية وإعلامها الرخيص، والتي تنفخ في كذبة تفوّق الكيان لتضخيمها، وتحويل العدو الصغير معدوم إمكانات البقاء إلى مارد جبار، لا يفكر أحد من مواطني الدول المنكوبة بأنظمة حكم تابعة في مجرد مواجهته، فضلاً عن إزالته أو الانتصار عليه، ويوفر للأنظمة الخائبة ملجأ إلى الخيانة المباشرة لقضية الأمة المركزية وقدسها الشريف، كما يمنح الهزيمة شرعية ما، في كل مواجهة وعلى امتداد سنوات الضياع العربية.
الواجب العربي الأهم، في هذه اللحظات التاريخية المجيدة، هو إعادة كتابة نقيض رواية أسطورة تفوّق الكيان، وكسرها كما كسرت المقاومة بثبات وجرأة وعزم لا يلين صورته العسكرية في كل ميادين القتال وعلى امتداد الجغرافيا العربية، وهذه تقتضي أولًا رفض الفكرة المبدئية التي روّج لها إعلام الحكام، وهي ببساطة تقول إنه بينما نحيا نحن العرب تحت سياط أزمات اقتصادية متتالية، نخرج من فخ العجز إلى مشنقة الديون والفوائد كما في حال مصر، أو العكس ننتقل من الديون إلى العجز كما في حال السعودية، فإنّ الكيان الذي نشأ على أرض غربية وبلا موارد تقريبًا حقق معجزة اقتصادية مذهلة، وهو يقف بين أعلى دول العالم من حيث الدخل الفردي ونسب النمو الاقتصادي السنوي وقطاعات التكنولوجيا الفائقة والصناعات المتطورة وغيرها.
في الواقع إن كيان العدو ما هو إلا صورة زائفة بالكامل، وتقدمها التقني وإنجازها الاقتصادي الأهم، الذي بدأ في مطلع التسعينيّات تحديدًا، كان إرادة غربية لمنح الكيان، ليس فرص الاستمرار فحسب، لكن شرعنة النفوذ والسيطرة على رقعة جغرافية تمتلئ بالأنظمة الفاشلة، والشعوب الضعيفة فاقدة الثقة والقدرة، في آن، وأن هذه الصورة كلّفت مليارات الدولارات تأتي من الغرب في صورة دعم ومنح ومساعدات، قامت على عين الغرب وفي حمايته وتحت ظلال بوارجه وفي حضن خزائنه وحمايتها، وأن هذا الخرطوم الأميركي الممتد هو ما يمنح الفرصة لزيادة صادراته وخصوصًا التكنولوجية والعسكرية الفرصة والبريق، كما يرتل علينا الإعلام الذي امتهن القوادة أن وادي السليكون في الكيان يلي نظيره الأميركي في كاليفورنيا، من حيث الأهمية عالميًا، وأن الكيان صاحب قطاع زراعي فائق التطور بالشكل الذي منحه سوقًا قريبة إلى الوديان العربية –مصر بالذات- التي عرفت الزراعة منذ آلاف السنين، في مفارقة تاريخية مثيرة للغثيان.
لحظة البداية الحقيقية لإمكان زرع كيان العدو، كان فرض الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا الغربية دفع تعويضات هائلة، للكيان مباشرة وللمهاجرين على السواء، استمرت بين أعوام 1953 إلى 1965، قدرت بـ3 مليارات مارك ألماني غربي بأسعار ذلك الزمن البعيد، إضافة إلى رواتب شهرية لليهود الأوروبيين، مثلت الجانب الأهم من الموازنة الصهيونية لمدة 12 عامًا، ما سمح برفع معدل نمو الناتج القومي من 2% إلى 17%، وكان جزءًا رئيسًا من المساعدات الألمانية هي نقل صناعات بأكملها إلى الكيان، لتمنحه فرصة ذهبية لبداية ناجحة مجانية.
وقبل أي داعم آخر تقوم واشنطن منذ البداية بدور الأم المرضعة، ووصل إجمالي المساعدات الأميركية للكيان بين عامي 1949 و2023 نحو 260 مليار دولار، وفقا للوكالة الأميركية للتنمية الدولية "USAID"، وفيما تلى عقد التسعينيات من القرن الماضي، توفر أميركا للكيان المساعدات على شكل اتفاقات لعشر سنوات، وبحسب اتفاق الطرفين في 1997، بلغت المساعدات العسكرية المباشرة 2.4 مليار دولار سنويًا، وفي 16 آب/ أغسطس 2007 وقعت اتفاقية مساعدات عسكرية أميركية هائلة، بإجمالي 30 مليار دولار، لمدة عشر سنوات، أي بزيادة 6 مليارات عن الاتفاقية السابقة، وفي عهد أوباما العام 2016، قرر منح "إسرائيل" حزمة مساعدات قيمتها 38 مليار دولار خلال عقد كامل ما بين 2017 و2028، إضافة إلى دعم إضافي يبلغ 5 مليارات دولار، إضافة إلى الدعم المباشر المقدم لنظام "القبة الحديدية" والذي يبلغ وحده 10 مليارات دولار منذ العام 2011.
وعقب وقوع "طوفان الأقصى" مباشرة، هرع الكونغرس الأميركي إلى إقرار حزمة مساعدات عاجلة إلى الكيان بقيمة 14.3 مليار دولار، ثم دخلت الشركات الأميركية على خط الدعم، وقررت شركة "إنتل" استثمار 15 مليار دولار مباشرة في القطاع التكنولوجي في الكيان، لتحاول الأموال الأميركية مرة أخرى إنقاذ كارثة اقتصادية قائمة، قد تؤخر الأوراق الخضراء حقيقة الانهيار والضعف الكامن في هشاشة قلب الكيان، وكونه كيانًا تلفيقيًا يخاصم التاريخ ويصادر الجغرافيا والثوابت والحقائق الكبرى، لكنه بالتأكيد –ومع واقع زمن أفول الهيمنة الأميركية- لن يستمر كثيرًا، وستهزمه في يوم ما ضرائبه الموضوعية.
بالرغم من كل هذه المساعدات الغربية السخية، فإن الكيان يعاني تشققات مرعبة، فالعملية الفلسطينية الهجومية، الأكثر نجاحًا وجرأة على الإطلاق، قد غيّرت الصورة كليًا، وطبقًا لبيانات العدو فقد جرى استدعاء الاحتياط يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر للخدمة العسكرية، أو 15% من القوى العاملة في مجالات التكنولوجيا، وهذا القطاع وحده يقدم 12% من فرص العمل في اقتصاد الكيان، وأكثر من نصف صادراته، و25% من ضرائب الدخل، ونحو 20% من الناتج الاقتصادي الإجمالي.
قطاع السياحة هو الآخر انهار تمامًا مع الضربة المباركة الأولى، بالرغم من كل رحلات التضامن غير المقدسة للحكومات الغربية، ووفقًا لموقع موقع "Secret Flights" المتخصص في متابعة الرحلات الجوية، تراجعت نسبة الطيران من مطار بن غوريون الدولي وإليه، في تل أبيب، بنسبة 80% كمتوسط منذ اندلاع الحرب، وعوضًا عن 500 رحلة يوميًا تراجع إلى 100 فقط.
ومع دخول الحرب الشهر الثالث، وتهجير مدن وقرى ومستوطنات بأكملها، سواء في الجنوب قبالة غزة، أو في الشمال أمام سواعد حزب الله القادرة، سحب الكيان جنود الاحتياط من بدن الاقتصاد التشغيلي الحيوي الإنتاجي، ما أخلّ باقتصاده وجعله في حالٍ من التباطؤ ثم الركود، وقال بنك "جيه بي مورغان تشيس" الأميركي إن اقتصاد الكيان قد ينكمش بنسبة 11% على أساس سنوي، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام 2023، مع استمرار الحرب، وتقدر بنوك الاستثمار الخسائر المباشرة للكيان بنحو 50 مليار دولار، أي نحو 500 مليون دولار/ يوميًا، وهو ما يرفع من احتمالات –وكذلك- آمال الانهيار الذاتي لفكرة الكيان الجاذب للهجرة، وتحويله من حلم إلى كابوس لن يطيق مستوطنوه الغرباء الحياة في لهيبه كثيرًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024