آراء وتحليلات
السودان وإعلام الدجال
أحمد فؤاد
كيف يقف العالم العربي اليوم وهو على بوابات عام جديد؟ هل نشعر بالتفاؤل بفعل ما قدمته الأمة دمًا ودموعًا وألمًا في غزة وفي لبنان واليمن وسورية والعراق، واثقين بإمكانياتنا وأنفسنا وقرارنا، بناء على حقيقة أن هذه الأمة وبخيار المقاومة الشرعي الوحيد قد أثبتت أنها قادرة على الحرب دفاعًا عن نفسها وحفاظًا على مصائرها، قادرة في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وقادرة أيضًا في أيام بعده، وأن محور المقاومة قد استطاع الصمود في أقسى اختبار للإرادة الإنسانية، حتى لو كان عدوها عالمًا بأكمله؟
أم نتشاءم من حقيقة أخرى هي أن العالم العربي مفتت، وأن صورة الدماء النازفة في غزة توجد في كل بلد عربي، وبعكس دماء جبهات المقاومة النبيلة تسترد للأمة كرامتها وعزتها وشرفها، لكنها في السودان دماء هدر بلا أهداف، رخيصة بغير ثمن؟ هل نتجاهل واقعًا مريرًا قائمًا وهي أننا نحيا مأساة قائمة تمسك بأعصاب الكل وتخنق صدورهم، وتشرذم الأمة الواحدة، أو ندعي أنها واحدة، في دوامة عنيفة من الخلافات، وتسود أجواؤها اليوم عواصف عاتية من الكراهية والإحباط والشعور بالهزيمة الداخلية المريرة؟
في الواقع فإننا أمام أزمة في الرؤية ليس لها سابق، بفعل مؤامرة كاملة وسوداء يمارسها الإعلام العربي الناطق باللسان الأميركي، عبر تركيز هالة الأضواء كلها على ما يريد هو أن نراه، وينفي من الوجدان أي شيء آخر، مهما بلغت أهميته أو فظاعته ودمويته، وفي السودان فإن الإعلام قد مارس في حق الأمة جريمة الخيانة العظمى الموصوفة، بالصمت المتواطئ على ما يجري للأشقاء في هذا البلد الذي ابتلي بنخب وحكام قد يكون كيان العدو بجانبهم صورة فوتوغرافية باهتة صغيرة.
اليوم، يتسابق عداد الضحايا في عاصمة البلد المنكوب، الخرطوم، مع شهداء الأمة في غزة، سقط أكثر من 12 ألف قتيل إلى مطلع كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وفق حصيلة بالغة التحفظ لمنظمة "أكد" المتخصصة في إحصاء ضحايا النزاعات، كما وصفت الأمم المتحدة الأزمة بصورة أعنف مع ارتفاع وتيرة قتال العصابات المسلحة في مدن ولاية الخرطوم، لتقول إنها "أكبر أزمة نزوح جماعي على الإطلاق" بعد أن أجبرت 7.1 ملايين شخص على الهروب من مدنهم وقراهم، ولم تتوقف المأساة عند الموت أو اللجوء، بل تضيف لها حقيقة انهيار 2/3 ــ ثلثاــ مستشفيات البلاد وقطاعاتها الصحية الفقيرة أصلا وعجزها أمام الأعداد الرهيبة للمصابين، أبعادًا أخرى أكثر سوداوية وكآبة.
أرقام الأمم المتحدة عن الكارثة المرعبة في السودان تقول إن نصف سكان البلاد، نحو 24 مليون إنسان، يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة لإبقائهم على قيد الحياة، وأنه إضافة إلى نقاط التماس الساخنة بين الجيش والدعم السريع والتي "تمزقها أعمال عنف لا هوادة فيها"، فإن النازحين يواجهون هجمات قاتلة وعنفاً واعتداءات جنسية مروعة، كما حدث في مدينة ود مدني خلال كانون الأول/ ديسمبر الجاري من جرائم واسعة وممنهجة ضد السكان المدنيين.
في السودان، البلد العربي الأغنى من حيث الأراضي الزراعية الخصبة وموارد المياه العذبة التي لا تنضب، وبإمكانياته الهائلة غير المستغلة من المعادن والذهب واليورانيوم والنفط، وموقعه كالجسر الواصل بين العالم العربي بإمكانياته وطموحاته وعالم أفريقيا بموارده وثرواته، يبحث نصف مواطني البلد عن الخبز، وقد لا يجدونه، والمفارقة القاسية أن هذه الدماء والسلاح والتضحيات لا توظف في خدمة معركة الأمة، في ظرف تحتاج فيه إلى كل مقاتل وكل رصاصة.
بعيدًا عن ما يحدث في فلسطين، وليس بعيدًا تمامًا عن قضية الألم العربي المستمر، في السودان الممزق والتائه، كانت "النخب" السياسية والإعلامية تروج قبل شهور قليلة، أن التطبيع مع الكيان والدخول في بيت الطاعة الأميركي، سيأتي بالرخاء والسلام إلى الشعب السوداني المبتلى بهم، منذ شهر نيسان/ أبريل الماضي، ورغم ما أطلق عليه "اتفاق جدة" برعاية ابن سلمان، تخوض العصابات العسكرية المتناحرة على السلطة أعنف معاركها في شوارع العاصمة، والضحايا جلهم من المدنيين العالقين في هذا الجحيم، إضافة إلى تدمير البنية التحتية والجسور والسدود المتواصل بغير انقطاع ولا ذرة رحمة في قلوب الجنرالين المتصارعين البرهان وحميدتي، وهما مستعدان كما أظهرت اشتباكات الخرطوم للقتال حتى آخر سوداني، وكل منهما يعلم أنها معركة صفرية، إما كل شيء أو لا شيء، ومن ثم فإنه من المفهوم أن أية هدنة لن تصمد لساعات، وأي تفكير في حل يوفق بينهما هو ظن واهم وخيال مريض.
الدول العربية المركزية، وهي في حالة السودان مصر تحديدًا، اختارت أن تؤجر دورها للخليج رغم كل ما ينطوي عليه انفلات الوضع بالسودان من مخاطر، فاندفعت الرياض وأبو ظبي إلى واجهة الفاعلين الرئيسيين، ومع اختلاف توجهاتهما فقد وقع الشعب السوداني ضحية ومفعولًا به للصراع الدموي الذي يجري شكليًا بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش والفريق محمد حمدان دقلو حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، لكنه في القلب تمامًا يستهدف إزالة السودان من خريطة العالم العربي، ونفيه وإمكانياته وشعبه وثرواته إلى التمزق الذي سيمثل الفرصة الذهبية لمجمع الشركات الأميركية الضخمة للنفط والمعادن، والتي لا ترى في أفريقيا إلا منجمًا للأرباح المحتملة.
الحل الوحيد في أزمة السودان، والرهان الممكن أيضًا، هو أن يدرك الشعب السوداني ــ بدفع من معاينة تجربة غزة والمقاومة ــ أن الحل بيده، وأن طريق الخروج يحتاج إلى إرادة هائلة، بعيدًا عن أي تمنٍّ كاذب في أية شخصية من أطراف الوضع الحالي، وأن باب الحرية مغلق، لا يفتح إلا بالدم والجهد، وأن الموت البطيء الذي يعانونه اليوم لا يختلف كثيرًا عن الموت بين زخات الرصاص، بغير هذا الحل لن يتحول السودان سوى إلى صومال آخر جديد، وهذا هو المطلوب غربيًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024