معركة أولي البأس

نقاط على الحروف

ساعة في حضرة عائلة الشهيد حسين مسرّة.. وشوق الأخ للشهادة أيضًا
27/12/2023

ساعة في حضرة عائلة الشهيد حسين مسرّة.. وشوق الأخ للشهادة أيضًا

د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي

في ذروة انهماكي بكتابة تقرير عن الحرب الدموية في غزة، وصلتني رسالة على هاتفي من صديق لي تتضمن دعوة للمشاركة في حفل تأبيني لشهيد المقاومة الإسلامية على طريق القدس الشهيد السعيد حسين نمر مسرّة، في بلدتي العباسية أمّ الشهداء، لأن الأوضاع الأمنية في مسقط رأس الشهيد عيتا الشعب حالت دون اقامة الحفل هناك.

قبل الرسالة لم أكن أعرف الشهيد ولم تربطني به أو بعائلته أي علاقة شخصية، أو حتى معرفة عابرة. كل ما عرفته عنه أنه يتيم الأم والأب، فضلًا عن قراءتي بعض سطور رثائه من المحبين على وسائل التواصل الاجتماعي.

سريعًا تلقفتُ الدعوة، وأجريت اتصالًا بأحد المسؤولين المعنيين في بلدة العباسية أبديت خلاله استعدادي للمشاركة مواساة لعائلة الشهيد وإصراري على أن أكون واحدًا من عائلة الشهيد، حتى ولو لساعة وأقف في مقدمة المستقبلين للمعزّين مع أهله والمنظمين للحفل. فقد كنت عرفت أن الشهيد يتيم الأم والأب، وهذا ما استفزّ مشاعري بشدّة.

في الوقت المحدد حضرت الى النادي الحسيني، ثم أخذت مكاني عند مدخله وبدأت مع أقارب الشهيد والمنظمين باستقبال الناس. إلى هنا لم يكن ثمة جديد، باستثناء تقاطر الحشود الشعبية لا سيما من أهالي بلدتيّ عيتا الشعب والعباسية (التوأم بالشهادة والتضحية والمقاومة) إضافة إلى البلدات والقرى المجاورة خصوصًا من منطقة الشريط الحدودي، حيث غصّ المكان بالمعزّين، بما في ذلك الباحات الخارجية للنادي الحسيني والشارع المؤدي إليه، في مشهد بدا غير مألوف في ظل هكذا أوضاع مضطربة أمنيًا.

لكن مهلًا، القصة لم تنتهِ عند هذا الحدّ. فبعد مرور حوالي النصف ساعة وأكثر على بدء مراسم استقبال المعزين، فجأة وصل شابان في العشرينات من العمر، وتناولا شالين أصفرين وقام كل منهما بلف شاله الخاص حول رقبته. بعدها، تغيرت الصورة. إذ انصبّ تركيز الوافدين (وجلّهم من بلدة عيتا) على أحد هؤلاء الشابين بالتحديد، ولحسن حظي أنه وقف بجانبي.

بداية لم أحتك بهما، وانصرفت لمتابعة ما جئت لأجله. لكن سرعان ما لفت انتباهي سلوك أحدهما الذي لم أجد تفسيرًا له، إلا بعد أن عرفت حقيقته. إذ كان كلما يعزيه شخص يجيبه باللهجة الجنوبية (المحببة لدينا) وبحيوية غير معهودة بكلمة "عقبالنا". وما زاد دهشتي، أن لفظه لهذه الأمنية كانت تصاحبها بسمة كبيرة ارتسمت على وجهه "ذي الوجنتين المحمرتين" كأنه في زفّة وليس عزاء.

بقي الشبان على هذا الحال مدة طويلة إلى أن أثار تصرفه فضولي. فهمست في أذن أحد المنظمين بجانبي - وهو من عيتا ايضًا - سائلًا عن هوية الشاب. فنزلت إجابته على مسامعي كالصاعقة: "هذا شقيق الشهيد".

مرّت لحظات حتى استوعبت الأمر. بعدها بادرته بالسؤال :"أنت شقيق الشهيد"؟ فردّ وهو يبتسم: "صحيح ولكن لماذا أنت متفاجئ". فأجبته: في الحقيقة "صدمتني روحيتك". هنا كاد الشاب أن يطلق العنان لضحكاته غير أنه تمالك نفسه، وهو يقول لي: "طبعًا عقبالنا، وتأخرنا كمان وهنيئا له".

الأكثر أهمية أن شقيق الشيهد، وبدل أن تظهر عليه علامات التأثر والحزن، بدا كأنه يلوم نفسه لعدم التحاقه بعد بأخيه الشهيد حسين. والغريب أن هذا الشاب لم يكتفِ بذلك، بل عمد أيضًا إلى فتح "البث المباشر" على تطبيق "فايس بوك" من هاتف، هزّت رؤيته كياني عندما صرّح لي أنه يعود لأخيه الشهيد، وهو بذلك أراد أن يوصل للعالم رسالة فخر وعزّ بمكانة الشهيد بقلوب الجماهير التي أتت من كل حدب وصوب لإحياء ذكراه المجيدة.

ومع انطلاق مراسم الإحياء، جلست محدثًا نفسي وقد هالني الموقف الذي عشته اليوم، وبالوقت ذاته، شعرت بالأسى والحزن بسبب كمية التفاهة والجهل التي نواجهها من البعض في لبنان، وأنا أسترجع مذهولًا ما كنت أقرأه أو أسمعه من افتراءات وتجنيات تجاه هذه الفئة من المقاومين الشبان وعائلاتهم، والاتهامات السخيفة الموجهة اليهم من بعض السطحيين إمّا بالانقياد الأعمى وراء الأجندات والمشاريع الخارجية، وإما بالانضمام إلى المقاومة تحت ضغط قلة فرص العمل، أو طمعًا بالمال.

هنا، قلت أنّى لعاقل أن يصدق أنّ هناك إنسانًا في هذا العالم المادي بامتياز، قد يتخلى عن روحه لقاء حفنة من الدولارات؟ وأي روحية هذه التي تجعل شقيق شهيد يستعجل الرحيل أيضًا؟ لا، بل لا يشعر بالرضا لأنه أطال البقاء في هذه الدنيا وهو لم يتجاوز العشرين من العمر. وتابعت والأسئلة تدور في رأسي.. هل يُهزم شعب على شاكلة شقيق الشهيد حسين؟

في النهاية، خرجت من النادي الحسيني ولديّ رغبة شديدة وملحة بأن أدعو كل المفترين على هذه البيئة إلى أن يأتوا ويجالسوا عوائل الشهداء هؤلاء، ليروا بأم العين هذا المخزون الهائل الذي يحملونه من روحية التضحية بالذات، والإيمان الراسخ بالجهاد والشهادة، إضافة إلى الاستعداد الدائم لتقديم ما تبقى لهم من فلذات أكبادهم أو اللحاق بهم، من أجل إحقاق الحق والتحرر من ظلم الاحتلال وجوره.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف