طوفان الأقصى
كمال عدوان.. إرهاب ممنهج أم جنون؟
أحمد فؤاد
إن الشعوب تحتاج لكي تتيقظ وتفيق أن تملك شرط الجسارة وشجاعة الشك وصلابة العزيمة، لمراجعة السائد والمنقول والمحفوظ من قضاياها وأزماتها، وافتقاد الخطاب الإعلامي العربي العام لهذه العوامل كلها، وفي ظرف مواجهة مصيرية كبرى هي "طوفان الأقصى" بكل ما تحفل به من تحديات وما تكشفه أمامنا من فرص مستقبل، ما يعوّق العقل العربي ويعطّل فعله ويحبط حركته أو يربك خطواته حين يتوجب عليه أن يتحرك مضطرًا.
بداية؛ فإنه لا يجوز للإنسان أيًا كان أن يبتلع الرواية الصهيو-عربية لما يجري في فلسطين، الانحطاط والسقوط يتمثل اليوم مجردًا في رقمنة دماء شهدائنا وأطفالنا في غزة. هم لم يكونوا ولن يكونوا أرقامًا تُستَدعَى للبكاء الخسيس العاجز أو المتاجرة الرخيصة بأرواحهم، هؤلاء يجب أن يتحولوا إلى ثأر يكبر ولا يصغر يستمر ويشتعل ويفور ولا يُنسى، ولا يحال إلى دفاتر قديمة باهتة تحفظ جرائم العدو بحقنا على امتداد الوطن العربي في دير ياسين وبحر البقر وقانا الأولى والثانية وغزة.
يمارس العدو بشكل ممنهج ومخطط إرهاب الدولة، بينما يوحي لنا وللغير بأنه انتقام جنوني واسع في مستشفى كمال عدوان بالذات، ومع الجريمة الأكثر دناءة وترويعًا يلخّص العدو فلسفته العسكرية بوجه المدينة الباسلة غزة، أولًا بإعادة قتل المناضل الفلسطيني كمال عدوان، بعد أن قتله قديمًا غدرًا وغيلة مع رفاقه كمال ناصر وأبو يوسف النجار في عملية فردان في بيروت في العاشر من نيسان 1973، لذا كان الحرص الصهيوني هذه المرة على تأكيد رواية المذبحة التي جرت، لا التهرب منها.
كمال عدوان هو المثقف الفلسطيني المشتبك الذي نشأ على وجع النكبة، واختار منذ البداية طريق المقاومة المسلحة المنظمة التي تضع في أولوياتها إزالة هذا العدو من الوجود. بالإضافة لذلك كان عدوان شخصًا ذكيًا وملهمًا بالنسبة إلى زملائه، ووضع نصب عينه ضرورة أن تكون للمقاومة الفلسطينية روايتها وأن تنشر كلمتها وموقفها. حمل عدوان على عاتقه مهمة إنشاء جهاز الإعلام التابع لحركة "فتح"، ثم تأسيس وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، وفي هذا كله أثبت الرجل أنه مناضل من الطراز النادر، عقل واعي يجمع بين شمولية الرؤية ووضوح الفكرة ونقاء الإيمان بها، ويملك إرادة الحركة وديناميكيتها، وفوق هذا كله، حمل فلسطين في قلبه حرارة دائمة لا تبرد ولا تنضب شعلتها.
ما قام به الاحتلال الغاشم في المستشفى التي تحمل اسم القائد الشهيد كمال عدوان، من جريمة تفوق حدود الاستيعاب، هو أنه أراد أن يصنع منها مقتلة جديدة ساخنة للمقاومة الفلسطينية البطلة، بعد أن عجز عن مواجهة أبطالها في الميدان، لم يستطع جيش العدو الذي كان يتباهى بأنه لا يقهر بعد 72 يومًا من العدوان الهمجي المتوحش أن يقاتل إلا الجرحى فيدفنهم أحياء، ولم يقدر على أكثر من أن يمثل بجثث الشهداء.
وتطابقت أحاديث شهود عيان وروايات الفصائل على قيام العدو بجريمة جديدة في مستشفى كمال عدوان، حيث حاصر المستشفى لأسبوع، قبل أن يقتحمها منذ 4 أيام، ودمرت جرافات العدو كل شيء في المكان، من خيام النازحين وصولًا إلى محطة الأوكسجين وخزانات المياه، ودمروا الصيدلية التابعة للمستشفى كما خربوا مباني الإدارة وأتلفوا سيارات الإسعاف، وحرقوا مستودع الأدوية بشكل كامل، ثم ألقوا القبض على 3 آلاف نازح، وأجبروهم على خلع ملابسهم، ووضعوا جوارهم بعض قطع السلاح، لتغطية الجريمة، وفي النهاية لم يسلم حتى الموتى من الانتهاك البشع، فأزالت الجرافات بعض القبور وسرق جيش العدو رفات الموتى.
هذا العدو المهزوم يحاول فقط أن يشفي غضبه وغليله من صمود الشعب الفلسطيني والصلابة المدهشة المثيرة للخيال لمقاومته المجيدة التي ما اهتزت أقدامها وما تزال، بالرغم من 45 ألف طن من القنابل والصواريخ الذكية والغبية التي أمطرتها عليهم السماء، بشكل يجعل من أكثر المدن تعرضًا للدمار عبر القصف الجوي في الحرب العالمية الثانية، دريسدن وهامبورج وكولونيا، صورًا فوتوغرافية باهتة جوار مأساة غزة الجارية، هذه المقاومة من جديد تعيد تعريف المبادئ الأولى للإنسان الشريف، القصة تحتاج إلى بطلين على الأقل بينما الأسطورة قد لا يعوزها إلا فرد واحد، وكل فلسطيني اليوم، كل مقاتل وكل امرأة وكل طفل، يقدم لنا أسطورة معمدة بالنور القدسي، أسطورة الفداء والصمود والتضحيات التي لا تعرف حدودًا، وهم فوق ذلك، يقدمون لأمتهم العليلة فرص الخلاص، ويخطون بنا إلى أول طريق النصر.
العدو لا يريد اليوم أكثر من كسر إرادة غزة بعد أن تبين له ولأميركا ومجمع الخونة العرب أنهم لا يستطيعون بجمعهم أن يحرروا أسيرًا واحدًا، أو أن يصلوا إلى قائد واحد من فصائل المقاومة، تحولت الحرب اليوم إلى معركة إرادة خام، الفلسطيني في ظروف بشعة وصعبة من غياب كل الإمدادات والمياه والمستلزمات الإنسانية في حدودها الدنيا، لا يزال يقاوم، وهذا بحد ذاته انتصارنا الكبير الذي تحقق فعلًا.
..
حين صُدم الثائر العربي جمال عبد الناصر للمرة الأولى بمعرفة عالمه العربي الواسع خلال حصار "الفالوجة" خلال معارك النكبة، أطلق صيحته الأشهر: "إن الحرب الحقيقية هناك، في القاهرة، وليست هنا، في فلسطين"، كانت الجملة القصيرة توجز كل ما يمكن من وصف أول حروبنا مع الكيان 1948، نحن لم نكن نحارب على الأرض فقط، ولم يكن عدونا هو عصابات مسلحة مثل "آراجون" و"شتيرن" فقط، بل عالم غربي كامل، ولم تكن معاركنا على الرمال وجوار حقول البرتقال، بل كان الجزء الأهم –والفاعل- منها يجري في مكاتب أنيقة معطرة في القاهرة وعمان، تمامًا مثلما يجري جزء من المعركة/ المؤامرة على المقاومة الفلسطينية البطلة في مكاتب الدوحة والقاهرة اليوم، وهي تستكمل جهود الحرب الأميركية الشاملة المعلنة على المقاومة العربية، وتحاول قتلها بالسم، بعد أن فشل الأميركي في كسرها بالسلاح عند مواقع القتال.
ليس غريبًا اليوم وقاهرة عبد الناصر قد انتهت، أن تنشر المواقع الرسمية المصرية –التابعة للجيش- خبرًا بكثير من الفخر بأن قوات دفاعها الجوي قد أسقطت جسمًا معاديًا أمام سواحل مدينة دهب في شبه جزيرة سيناء، وهو في الغالب، وبفرض صدق معدومي الكفاءة هؤلاء، طائرة مسيّرة أطلقها الشرفاء في اليمن حركة أنصار الله، والتصدي المصري –إن كان حدث- هو دفاع مباشر عن مدينة أم الرشراش المصرية المحتلة، أو إيلات، أمر منطقي يتكامل مع الدور المصري القذر بحصار شعبنا العربي في غزة خدمة للصهيوني ووقوفًا في خندقه، وهو كله على بعضه يقول إلى أين يمكن أن تذهب الخيانة ببعض العرب، حيث لا حدود للسقوط على كل المستويات، الجميع هنا مجرم عتل آثم، حاكم بالقهر أو محكوم بالخوف أذلته روحه الرخيصة، الكل شريك بقدره في الخطيئة، ولا عزاء للخونة.