طوفان الأقصى
كيان العدو.. ما وراء الصورة
أحمد فؤاد
آن لعملية طوفان الأقصى أن تكتسح "ثوابت" الصورة العربية التقليدية والبائسة للعدو. تحتاج كل الدماء الزكية التي بذلت على جبهات القتال والشرف لإعادة وضع جملة مفيدة للصراع العربي الصهيوني ومستقبله الذي يتشكّل ويحبو أمامنا، في غزة وجنوب لبنان واليمن والعراق، في مرحلة الخلق والتكوين الأولى، بالفعل العربي الأنبل "المقاومة"، وجدواها المستمرة والأكيدة والثابتة.
إعلام الأنظمة العربية التي ثبت الآن قولًا وفعلًا خيانتها للأمة وشراكتها في جريمة العدو الصهيو-أميركي، يحاول على الدوام استحضار مصطلح "جمهوريات الموز" للتعبير عن وصفه وتعريفه للدول العربية كلها، وفي المقابل يتبنى الإشادة والترويج لكذبة ضخمة عنوانها التفوق الصهيوني، ومدح ديمقراطيته وحرياته وحتى أسلوب الحياة ونظامه السياسي، ومحاولة تلفيق خدعة زائفة عنوانها "عدالة الحكم" هناك.
شخصية رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، والصف القيادي الأول من ورائه، يختصر بغير إخلال حقيقة هشاشة الكيان وعجزه وفشله، "الملك بيبي" كما يفضل هو أن يناديه إعلامه، تعلّم أصول الفساد بطول العلاقات وعمق التطبيع والتعامل مع رؤساء أنظمة العار العربية وملوكها وحكامها، انتقل إليه بالعدوى فيروس الثالوث العربي غير المقدس "الغباء- العناد- الغرور"، وتحكّم فيه النزق والجنون واستولت عليه رغبة حرق كل العالم قبل أن يدهسه طوفان الأقصى.
يبدو الكيان تحت قيادة نتنياهو كدولة عربية فاشلة، ربما أكثر فشلًا ممّا يلوح لنا عند السطح القريب، وممّا تقوله وسائل الإعلام الصهيونية أو الغربية بشكل عام، هذه الدولة تحت حكم رجل واحد كفرعون في القديم، حاكم نصف إله، يندفع في غبائه ليقف في الموقع الخطأ بداية، وفي النهاية هو لا يرى الواقع؛ لأن غروره لا يريد له أن يرى كوابيسه وقد تحققت.
المقاومة الفلسطينية الصامدة المجاهدة في حربها الحالية قد قدمت لنا أول دروسنا في الخلاص، وهي وضعت العدو في عراء حيث تنهار كل عوامل قوته، وتبديدًا لسقوف المخاوف العربية من السلاح الأميركي القادر، هذا السلاح ثبت أنه ضجيج بلا طحن، وأن قوة عربية تمتلك أي قدرة على تحييد سلاحه الجوي، ستكون قادرة على هزيمته ومضغ قلبه بهدوء.
اندفع نتنياهو إلى حرب لم يختر هو توقيتها، وكل نهاية متصورة لها تحمل طابعًا انهياريًا مؤكدًا، إذا استمرت الحرب فهو ينزف قلبه الملتهب، جيشه الذي هو ضرورة بقائه واستمراره، وإذا توقفت اليوم فهو قد أقر بالهزيمة وفشل في تحقيق كل –وأي من- أهدافه المعلنة، وهو إن توسع يخشى عواقب سيناريوهات أكبر من قدرته على الاستيعاب وأضخم ممّا يحتمله فعلًا، وإن حصرها في جبهة واحدة الآن، فهناك جبهات قائمة تضربه، وتضربه بشدة.
الكيان الصهيوني بعد 67 يومًا من عدوانه الوحشي على مدينة غزة المحاصرة والمعزولة، قد جرّ إلى حرب استنزاف دامية بكل ما تحمله كلمة استنزاف من وقع هائل وتأريخ جديد، ومع كل التضييق على النشر ووقف إعلان قتلاه، فإنه خسر فيها أضعاف حروبه أمام جيوش عربية مجتمعة، وهو يخسر بشكل لن يستطيع داعموه رتقه في أجل قريب، ولو اجتمعوا له.
القائد غير التاريخي لعدوّنا، والذي صعد إلى سدة الحكم في الكيان، واستمر طويلًا جدًا كملك غير متوّج، بكل جنون العظمة والخلل الذي يعانيه، لا يعدو كونه ظلًا باهتًا لصورة أي حاكم عربي تقليدي، وبالمقارنة مع جموح أحدهم بمحاولة خلق مجتمع على مقاسه في نيوم من العدم، ولو أنفق فيها كل أرصدة بلاده، حتى النهاية بلا نهاية، أو وغد آخر مندفع بتهور في فكرته الجنونية باستبدال عاصمة بلاده التاريخية ذات الألف عام، بعاصمة عسكرية خرسانية كئيبة لا يجد لها من -الخيبة- اسمًا حتى اليوم، ستنتهي مثله أو قبله، وستدافع العاصمة عن نفسها بقوتها الإنسانية وعمق شموخها وفائض تاريخ كل حجر فيها، وقد خسرت بلاده مقدمًا حاضرها وكل المستقبل.
اليوم؛ لا يقف الكيان كما تعوّد وتعوّدنا كرقم فارق في معادلة المنطقة، بل صار رد فعلٍ لقرار من خارجه، وكل القوة الأميركية التي كانت تبدو في يوم غير قابلة للحلحلة أو الاهتزاز أصابها التردد والارتعاش والخرف. اليوم المقاومة هي سيدة الموقف وعنوان الزمن وفاتحة القادم، وقد كسرت في صمودها الأسطوري وثباتها الحازم إمكان استمرار الكيان الغاصب، ومعها فرص بقاء الأنظمة التي هندستها وزرعتها واشنطن في العالم العربي، دماء 18 ألف شهيد في المدينة الوادعة هي القربان الذي قدمته فلسطين لأمتها، حين سكت البعض وباع البعض الأخر بالثمن، وتآمر الآخرون، واليوم يضج الإعلام الأميركي صراحة بالتململ من الدعم المطلق للكيان وتبعات خصمه من مستقبل السيطرة الإمبراطورية على العالم.
اليوم؛ لا تقف المقاومة العربية في كل الساحات بتوحد، بل هي تقف عبر غرفة عمليات ذكية وفاعلة، قد حوّلت قواعد الأميركي المنتشرة في سوريا والعراق إلى طرائد مرعوبة تنتظر لحظتها، وكشفت للجماهير العربية الواسعة حولها، والتي ترى وتتابع مصطلحات الرضا والتهديد الأميركي ككلمات مملوءة قشًا وتبنًا، وبأنها حتى لو كانت عملاقًا فهي عملاق بأقدام من فخار وسط عالم يعاديه، صارت تلك مصطلحات القصور والأغبياء، وفور أن تدفع مقاومتنا الباب لضربة أكبر، وهي آتية حتمًا، فإنها ستقطع اتصال هؤلاء مع أرضنا وتنفي وجودهم بيينا، هذه الأرض التي لا تعرف سوى أقدامنا، دائمًا.
..
حين أطلق سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي صيحته المدوية "إسرائيل سقطت"، لم تكن نبوءة أو وعدًا مستقبليًا، بل كانت تحمل الكلمة جلال الشهادة وكمال الإيمان وعبقرية الشخصية للسيد، كانت الصفعة التي غيرت وجه التاريخ، إنها الفعل الذي يستطيع -من الواقع وعبره- تغيير كل الوضع بظلامه وجهله وقلة إمكاناته، لم تسقط "إسرائيل" اليوم ولا يوم السابع من تشرين الأول، بل سقطت حين حلّت البندقية العربية مكان القصيدة والخطاب، وستلمع نهايتها السوداء القريبة بقدر ما تترجمه المقاومة على الأرض، من رفض مطلق ومن صميم أعماقنا، لفكرة الهيمنة الأميركية على أقدارنا.