طوفان الأقصى
انتصار فلسطين الحتمي
أحمد فؤاد
تصلح لحظة 7 أكتوبر/ تشرين الأول بدايةً لتأريخ، هي ليست نوعًا من التغيير الثوري الجذري وكسر كل ما هو منطقي واعتيادي فحسب، لكنها فجّرت عصرًا جديدًا بالكامل، لم تُعد تشكيل معادلاته وحسب؛ إنما خلقت معادلة جديدة لزمن جديد، ولن تقف حدود توابعها الهائلة على أرض فلسطين، لكنها ستتعداه إلى المنطقة العربية والعالم كله.
العملية العسكرية شبه الإعجازية، والتي قامت فيها المقاومة الفلسطينية الباسلة بالانتقال من حال الدفاع إلى الهجوم، كان لها أن تكسر فورًا صورة الكيان، وتضربه في قلبه تمامًا. وهذه العملية فائقة الدقة والأداء تصلح كي توضع بين أعظم العمليات العسكرية لسلاح القوات الخاصة، على مستوى التخطيط والكفاءة والمفاجأة والنتيجة الهائلة التي حققتها.
انتقال الكيان، لأول مرة في تاريخه، إلى خندق الدفاع، حيث كشف عن كل أسباب الضعف الكامنة فيه، وتجمعت سحب النهاية المحتومة لهذه الظاهرة الطارئة قصيرة العمل فجأة فوق الرؤوس، وتحول أشهر وعد في التاريخ العربي القريب –أوهن من بيت العنكوت- إلى أمر واقع يتقبله الوجدان العربي، ويراه ويلمسه، وينساب حتى في تحليلات وتقارير العدو ذاته، وقبل غيره من داعميه، والذين بدأ بعضهم يتململ من استمرار مشوار الدعم الطويل والمرهق، دونما جدوى إستراتيجية بادية.
عرّت الخطوة الفلسطينية الجبارة "حقيقة الكيان"؛ فإذا هي عارية أمام العقل العربي وقلبه، هذا الكيان ليس إلا انعكاسًا لأزمتنا العربية المزمنة، وقوته هي الظل الأسود لتفتتنا ومشكلاتنا وصراعاتنا وتفرقنا، وكل ما كان يروّجه إعلام الكيان الكاذب، ثم يعيد صياغته وتلاوته علينا إعلام الأنظمة، ما هو إلا أكبر الجرائم الأخلاقية التي ارتكبت في تاريخنا كله، طعنة الغدر التي وجهناها لأنفسنا بأنفسنا.
الإنجاز الأهم لمحور المقاومة لا يتوقف عند الكيان المتداعي، بل يصل إلى صميم فكرة الهيمنة الأميركية على العالم. اليوم، في جنوب لبنان وفي اليمن وفي العراق، يجابه الصهيوني والأميركي بالصاروخ، لم يرتدع أحد ولم يلتفت للتهديدات الصادرة من البنتاغون والبيت الأبيض، في شمال فلسطين المحتلة، وفي مواجهة حزب الله، لجأ الكيان إلى سياسة "الصمت" وعدم الإعلان عن خسائره، وهي المرة الأولى في تاريخ الصراع الذي يصل فيه الكيان لهذه النقطة الفاصلة، ابتلاع الضربات يوميًا ومن دون رد.
اليمن هو الآخر يواصل تقديم إبداعه المنفرد والعظيم في الصراع الحالي، وبطريقته الخاصة، عبر تدخّل يثير الدهشة والغيرة، يقهر الجغرافيا التي أبعدته عن الميدان، ويحوّل الكيان إلى طرفة يومية يتندر بها الكل، من أسر سفنه إلى استهدافها، ثم وصول الصواريخ إلى أم الرشراش، بالرغم من الحماية التي توفرها واشنطن والأنظمة العربية.
يوم 7 أكتوبر حدث ما كان مجرمو الكيان الأوائل يتجنبونه ويحذرون منه، تلقى الكيان الضربة الافتتاحية الكاسحة في الحرب أمام طرف عربي، ووجد نفسه تلقائيًا في موقع ردّ الفعل، بكل ما يخصم منه هذا الموقع من فرص وإمكانات عمل، ويحدّ من حريته في العمل العسكري، وينتزع منه –بالقوة القاهرة- سلاحه المفضل المبادأة، ثم هو بعد هذا كله، يفرض عليه الكوابيس الثلاث الأسوأ: حرب بغير توقيته، ثم هي حرب طويلة، وأوار نيرانها في مدنه وبين مستوطنيه.
وإذا كان النصر، كما يجزم المنظّرون العسكريون والخبراء، من "صن تزو" إلى "كارل فون كلاوزفيتز" و"ليدل هارت"، هو ببساطة ودقة ووضوح "الوصول إلى الهدف من الصراع العسكري"، فإنّ الهدف الذي سعت إليه المقاومة الفلسطينية والمحور، من بعد يوم السابع من تشرين الأول، وفي أفضل السيناريوهات وأكثرها تفاؤلًا، خلق معادلة ردع جديدة طرفها الأول غزة ومقاومتها ضد الكيان، والثاني كسر الحصار الصهيو-عربي على المدينة التي تفتقد -بالأصل- أدنى مقومات البقاء والحياة، بشكلها المباشر والبسيط والإنساني، والثالث تعزيز محور المقاومة بـ "جبال رواسي" تتمثل في دولتين عربيتين كبيرتين، ضربا جذورهما في قلب الحضارة البشرية وظللا مسيرة الإنسان، وتمثلان معًا موردًا ومعينًا، كبيرًا ومتسعًا وعميقًا للفعل العربي المقاوم، وهي دول بوزنها السكاني الضخم، وثقل الموقع وتوافر الإمكانات، تضم صفوفها إلى فلسطين ولبنان وسوريا وإيران، لكي يشكّل الجميع معًا "جبهة عمل موحدة" أكبر من طاقة الكيان على المواجهة، وأقدر على مقارعة الوجود الأميركي في المنطقة وحولها، وتحويل فرص بقاء الكيان إلى وهم تذروه رياح التغيير، المؤمنة العاتية.
حققت المقاومة الفلسطينية هدفها الأول، ومنذ الطلقة الأولى، وكتبت من جديد بالدم والنار، حفرًا على جبين الدهر، أن طريق المقاومة -بذاته ولذاته- انتصار، وهو الفعل الوحيد النبيل في حياة الأمم ولحظاتها المجيدة، مهما عظمت التضحيات ومهما بلغ مداها.
لكن مع الاجتياح الصهيوني البري لقطاع غزة، وسياسة الإبادة الشاملة التي اعتمدها جيش العصابات بخلفيته العدوانية المجرمة، ونتيجة لعجزه وثأرًا لكرامته الجريحة التي بعثرتها المقاومة في أول ساعات القتال، فإنّ سؤال "ما القادم" يمثل إجابة معقولة عن التصورات الإستراتيجيّة لهذه الحرب والأيام العصيبة التي يمرّ بها شعبنا الفلسطيني البطل في غزة.
اليوم هو الثاني والستون للحرب، كل يوم وكل ساعة صمود للبندقية الفلسطينية الهادرة المرفوعة فوق الرؤوس، يرفع من رصيد المقاومة في الشارع العربي، ويضرب بعنف وبغير استحياء فرص بقاء أنظمة العار العربية، التي وقفت بالكامل –ومنذ اللحظة الأولى- في خندق العدو، ضد مصلحة شعوبها وضد انتمائها وضد آمال الناس وأفكارهم ومبادئهم، الهزيمة الصهيونية ستستتبع من فورها إعصارًا سيفتك بقدرة هذه الأنظمة المجرمة على الإمساك بخيوط السلطة والحكم، وهو الآن يهزّ أعصابها ويلقي الرعب في قصور الحكم العربية، من القاهرة إلى عمان ثم الرياض.
سيحاول الكيان بكل ما أوتي من قوة، ومهما استطاع، أن ينقل إلينا رسالة عن "جحيم غزة" التي قررت المقاومة فسحقت وأبيدت، وهي ذاتها الرسالة الإعلامية الرسمية العربية، وهي ذاتها الفكرة الدائمة للدجال الذي يرى الواقع بعين واحدة، ثم يريد من الجميع أن يصدق ما يراه هو ويردده بصخب وبلا توقف.
..
لعلّ العجز الأميركي يتمثل -مجردًا- في الرد على القرار اليمني بخنق الكيان عبر وقف شريان التغذية العابر لباب المندب، مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان قال إنّ: "واشنطن ستبحث تشكيل قوة عمل بحرية لضمان المرور الآمن في البحر الأحمر"، فيما مجلة نيوزويك تقول إنّ: "محاولة حماية كل سفينة تعبر باب المندب في داخل البحر الأحمر أو خارجه أمر مستحيل"، وتتكرر عبارات العجز الأميركي في التقارير والأنباء حول فشل وزارة الدفاع في صياغة أو تبني "أي رد" على جماعة أنصار الله التي أحكمت قبضتها على أهم ممرات الملاحة العالمية، ففقدان القوة العظمى لـ"الهيبة" الكافية بكبح التهديد لطالما كان الخطوة الأولى لسقوط الإمبراطوريات عبر التاريخ.