طوفان الأقصى
خطاب السيد.. إعادة قراءة ضرورية
أحمد فؤاد
الحياة في صورتها الأولى ــ الخام ــ عبارة عن سلسلة متتالية من التجارب، تحتاج لكي تستمر وتمشي أن تنظر خلفك أحيانًا للتعلم مما فات، أو للاستفادة من الخطوات السابقة على الطريق، المقاومة في حد ذاتها كعملية تصميم إنساني وخيار صمود مستمر هي الأخرى أحوج ما تكون للنظر فيما قد يكون فات، لاستيعابه وهضمه والاستفادة من الخطوات الناقصة، ربما بأكثر من التعلم من النجاحات.
الخطاب الأول لسماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، خلال الاحتفال التكريمي للشهداء الذين ارتقوا على طريق القدس، يوم الثالث من تشرين الثاني الجاري، تلاه أكبر عملية تضليل إعلامي في "إعلامنا العربي" المشبوه والتابع والخائن، الإعلام الذي يحمل قلبًا عبريًا وروحًا أميركية، مارس بفجور "الخلطة السحرية" الأميركية في ممارسة الدجل الجماعي بحق الوعي العربي، حاول بجهد وكد أن يغتال الأمة معنويًا، ليستكمل جرائم الأنظمة المادية في حق الشعوب، الظالمة والجاهلة، في آن.
الإعلام الأميركي في هذا لا يعدو أكثر من كونه "إعلاناً" يحمل وجهة نظر واحدة، ملونة وذات بريق وربما إغراء، لكنه لن يقدم لك أبدًا الصورة الكاملة، والإعلام العربي الذي استورد هذه الطريقة، نجح –للأسف- في أن يضعنا في موقف الدفاع عن المقاومة، في وجه حملات مكثفة من الأكاذيب والأوهام والأباطيل، وهو مبدئيا موقف ضعيف وخاسر، لذا، من الضروري بعد أن دخلت عملية "طوفان الأقصى" البطولية المجيدة يومها الثالث والأربعين، أن نعيد قراءة واحدة من الحقائق الناصعة التي جاءت في خطاب سماحة السيد الأمين، كضرورة ملحة لتصويب البوصلة، وإعادة خطوتنا لتمضي في طريقها الطبيعي، أي خلف المقاومة ومعها.
ما هو فارق في خطاب سماحة الأمين، وهو كله يحتاج إعادة قراءة هادئة، تستوعب وتفهم وتعي، حدود المعركة الحالية وخنادقها وأطرافها، وثوابت "حزب الله" التي لا تتغير أو تتبدل في المواقف ولا الصراع العربي-الصهيوني، هو جملته شديدة الإيجاز والدلالة: إن "انتصار غزة اليوم هو مصلحة وطنية مصرية، انتصار غزة اليوم هو مصلحة وطنية أردنية، انتصار غزة اليوم هو مصلحة وطنية سورية، وأولاً وقبل الدول كلها، انتصار غزة اليوم هو مصلحة وطنية لبنانية".
كيف نفهم هذه الكلمات، اليوم، وبعد مضي 6 أسابيع كاملة من الحرب الجنونية على غزة الصامدة، غزة البطولة والتضحية والفداء؟!
في الحقيقة فإن خيار المقاومة، بذاته ولذاته، هو خيار انتصار حقيقي، أن تقاوم فأنت تحلم وتعمل لتحقيق النصر، أما إن اخترت الاستسلام، فقد قبلت مقدمًا أن تكون قربان المنطقة كلها على المذبح الصهيو- أميركي، لم يكن خيار "كربلاء" في أصله يتضمن احتمالية هزيمة، أو يدعو لها، كان معركة الإيمان ضد الكفر، طريق الله وطريق الشيطان، هو خيار "جهاد نصر أو استشهاد"، وفي الحالين فإن المؤمن يربح الدنيا والآخرة، ولا يترك لعدوه سوى الموت وسوء المصير.
إن ما يحاول إعلام التضليل والكذب والخداع تمريره إلى المتلقي العربي، هو أولا ودائمًا نفي فكرة الانتصار، ومحوها تمامًا، أي تثبيت صورة الهزيمة ومرادفاتها على الشخصية العربية، لم يكن غريبًا أن تكون صور الأطفال والضحايا والتدمير هي الأكثر انتشارًا وتواجدًا على الشاشات، ولم يكن وجود الضيوف المتباكين فيها ليل نهار محض صدفة، ولم يذهب هذا الإعلام الشيطاني إلى إدانة المقاومة الفلسطينية البطولية والأسطورية من تلقاء نفسه، هو ترس في آلة الدعاية الأميركية والصهيونية، وهو ربما يمارس دور الخيانة بإخلاص نادر.
ما يمكن أن نستنتجه من المتابعة لهذا الإعلام، هي الحقيقة التي ساقها إلينا سماحة السيد، أن انتصار المقاومة الفلسطينية، وحماس بالذات، هو انتصار للشعوب لأنه كسر للأنظمة الخائنة، واليوم، الحقيقة الوحيدة العارية في الفضاء العربي هي أن كسر الهيمنة الأميركية عبر تحطيم صورة قاعدتها العسكرية المتقدمة في الكيان، سيهز أوضاعًا وعروشًا "قلقة"، قامت في غفلة من الزمن والتاريخ، وهي مهتزة أصلًا.
اليوم نؤمن يا سيدنا أن "حزب الله" يخوض "معركة حقيقية مُختلفة عن المعارك كلها التي خاضتها المقاومة في لبنان، سواءً قبل عام 2000 أو في عام 2006 وما بعدها، معركة مختلفة من نوع آخر، في ظروفها، في حيثياتها، في عناوينها، في أدواتها، في استهدافاتها، في إجراءاتها"، نرى ونؤمن أن الحزب بموقفه وبالدماء الزكية التي قدمها ويقدمها "على طريق القدس" يفتح المجال واسعًا أمام أي احتمال في أي وقت، عبر تدمير منظومات الإنذار والرصد والرؤية، نرى ونؤمن ونصدق أن الحزب يقتلع "عيون العدو"، قبل أن يتقدم في اللحظة المناسبة لاقتلاع قلبه.
..
بعيدًا عن ما يحدث في فلسطين، وليس بعيدًا تمامًا عن قضية الألم العربي المستمر، في السودان الممزق والتائه، كانت "النخب" السياسية والإعلامية تروج قبل شهور قليلة، أن التطبيع مع العدو والدخول في بيت الطاعة الأميركي، سيحمل الخير والبشرى إلى الشعب السوداني المبتلى بهم، اليوم، تخوض العصابات العسكرية المتناحرة على السلطة أعنف معاركها في شوارع العاصمة الخرطوم، والضحايا وفقًا للأنباء مئات المدنيين العالقين في هذا الجحيم، إضافة إلى تدمير البنية التحتية والجسور والسدود متواصل بغير انقطاع ولا ذرة رحمة في قلوب الجنرالات، لم يحمل "العصر الأميركي" إلى البلد الشقيق سوى الموت المجاني الجماعي المروع، ودون تغطية حتى!