نقاط على الحروف
خطاب الألم والدم
أحمد فؤاد
"إنّ ثقتَنا بوعدِ اللهِ أعظمُ من أن تَتزَلْزلَ
وثقَتنا بنصرِهِ أعظمُ من أن تُهدَّ"..
شيخ شهداء المقاومة الإسلامية الشَّيخ راغِب حَرب.
كان العربي القديم - وربما لا يزال - يقدس الكلمة، ويعرف لها أهميتها وقوتها، ويضع لها ألف حساب، يفرق بين ما هو "عهد" وبين ما هو جعجعة فارغة، ويعتبر الكلمة في حد ذاتها وصفًا وطريقًا وقرارًا، ومع تسارع الأحداث الهائل في المنطقة العربية، فإن هذه المتلازمة عادت للظهور، بين كلمات تافهة، تقال لمجرد شغل المسرح، في فقرات تشبه عروض السيرك ومدن الملاهي، وبين رجل يضع يده على جرح أمته، ويشرح واقعنا بقلب خبير، ويرسم الخطوات إلى المستقبل بروح وثابة قادرة ومؤمنة.
كان لخطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ما بعده، سواء في حاضر العالم العربي أو مستقبله في آن. ارتفع هذا الخطاب إلى مستوى الآمال العظمى المعلقة على المقاومة وعلى قرارها، وقدم لنا ببساطة مكثفة عبقرية وبليغة –كالعادة- التوصيف الأدق للحرب الجارية في غزة، وللنيران التي تنتشر في المنطقة بطولها وعرضها، والأهم أنه بشرنا بالنصر الآتي، مقدمًا من الشواهد والأسباب ما يجعلنا أكثر ثباتًا وصبرًا في مواجهة الثمن المطلوب لجولة المواجهة الحالية.
في البداية، وقبل أي خوض مطلوب في خطاب سماحة السيد وما حمله إلينا بخصوص معركة "طوفان الأقصى"، فإن المتابع لخطابات سماحة السيد الأمين، يجد أن المبدأ المركزي الراسخ، في كل لحظة وأمام أي تهديد أو تحدي، هو مقارعة الاستكبار والهيمنة التي تمثلها الولايات المتحدة، كما أن مواجهة الكيان هو الآخر يحمل بعدًا إيمانيًا شديد الوضوح، لا يعرف المهادنة ولا التشتيت ولا التراجع، وحركتها الدائمة هي التقدم بخطى واثقة إلى الأمام، ومنذ التسعينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم، لا تزال كلمة الأمين تحمل المدلول ذاته: "نعرف أيّ كيان نُقاتل، أيّ ترسانة عسكرية ونووية نُقاتل، نعرف أيّ كيان وأيّ عالم يدعم هذا الكيان من شرقه وغربه، نعرف من يقف خلف هؤلاء اليهود القتلة الذين يحتلون أرض فلسطين".
لكن كلمة سماحة السيد، في ذكرى فارقة هي يوم الشهيد 11/11، ارتقت إلى المعنى الجليل للمناسبة، وما تعنيه للمقاومة وجمهورها، في العالم العربي كله، لخصت الأوضاع، ورسمت لنا طريقًا للخروج مما نحن فيه، ومما وقعنا في أسره، ما يعوق قيامنا ويصادر حقوقنا، ما يمنع الشعوب العربية من أداء واجبها في واحدة من لحظات تاريخها العزيزة –والمأزومة أيضًا- وضعت لنا خطوطًا فارقة بالأحمر حول من يقف معنا، ومن يقف ضدنا في خندق العدو، خاصة في كلمته عن الإعلام العربي: "هناك وسائل اعلام عربية وكتاب عرب يساعدون بشكل متعمد أو غير متعمد على تحقيق الهدف الصهيوني".
ليس جديدًا أن تغدو الأقلام العربية سلاحًا موجهًا ضد الرأس العربي والقلب العربي، في الحقيقة فإن عقودًا سوداء طويلة من تغلغل وحضور وسيطرة المال الخليجي على العمل العربي، وخصوصًا وسائل الإعلام، قد خلق طابورًا خامسًا في كل دولة عربية، طابور خيانة يقف مبدئيًا باليد واللسان والقلب ضد القضايا العربية، وهو دور يتكامل ويتوحد مع أهداف أنظمة خانت نفسها ودينها وأوطانها، وهتكت كل غالٍ من شرف أو أخلاق، حتى القيم الإنسانية المجردة لم تسلم من خناجرهم.
اليوم يخوض الإعلام العربي معركة مساندة للأنظمة الرسمية ولسيده الأعلى في "تل أبيب" وواشنطن، بطرق غبية وباردة، ليست حتى مبتكرة ومستحدثة، اليوم تعيد علينا الفضائيات العربية والإذاعات والصحف تقديم أصناف من الخيانة، جربتها قبل ذلك وبغير فارق يذكر في حرب تموز 2006، الانتصار الإلهي الجبار، والفكرة التي تحاول كل تلك الأبواق الزاعقة تمريرها هي رسالة "الدم والألم"، بمعنى أن من يجرؤ على الوقوف ضد الإرادة الصهيونية أو الرغبات الأميركية سيسحق ويموت ويدهس، وغزة أمامكم مثالًا على قدرة التدمير والأسلحة المتقدمة، التي لا نحلم حتى بمضاهاتها.
الإعلام العربي يركز على صور المأساة الإنسانية المتواصلة في غزة، كما كان يركز في حرب تموز على صور الضحايا من جنوب العزة، ويبتعد عن أي ذكر للمقاومة وقدراتها وصمودها البطولي والمعارك التي تخوضها مع نخبة الجيش الصهيونية، وتندرج فقط تحت عنوان "الأساطير"، الإعلام العربي لن يرجع صدي الألم الصهيوني ولن ينشر صور مغتصبات الشمال التي أصبحت فارغة على عروشها، ولن يعيد تذكيرنا بانهيار "فرقة غزة" في ساعة من نهار، وسقوطها بين جريح وقتيل وأسير وهارب بيد 1200 بطل فلسطيني، أخلصوا لقضيتهم ولربهم، فثبتهم ومكن لهم من عدوهم.
الهدف الأول والأساسي، كما أعلنه سماحة السيد من هذا العدوان الهمجي المجرم للكيان، بدعم أميركي كامل، هو "الإخضاع وإسقاط إرادة المطالبة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الصامد، والتيئيس من خيار الصمود والمقاومة، والدفع إلى قبول ثقافة الاستسلام، عبر القول أن كلفة المقاومة والمطالبة بالحقوق غالية جدًا".
ولا يمكن تفويت ما وعد به سماحة سيد الوعد الصادق، والسند في هذه الأيام الصعبة، من أن حزب الله حاضر في الميدان، وهذا الحضور "مكلف وثقيل وخطير" على العدو، حضور حزب الله لا يعني هنا تحليلًا شخصيًا، بعد خطاب السيد مباشرة –مساء السبت- عقد بنيامين نتنياهو رئيس حكومة العدو مؤتمرًا صحفيًا، ووجه فيه التهديدات إلى الحزب ولبنان، كما زار وزير الحرب الصهيوني الجبهة الشمالية، وجعجع الأجوف كعادته بقدرة سلاح الجو على تدمير بيروت و"جعل سكانها يرفعون الراية البيضاء".
..
فور اندلاع حرب تموز 2006، قامت أنظمة عربية بالفعل الوحيد الذي تجيد القيام به، الخيانة والطعن من الخلف، وعقدت مؤتمرًا أدانت فيه "مغامرة" حزب الله بأسر الجنديين في عملية الوعد الصادق، وفوق ذلك قدمت المبرر للعدوان على الشعب اللبناني، بلا ذرة حياء أو خجل، اليوم يتكرر الموقف مع اختلاف أسماء الحكام، لكن المفارقة التاريخية هي أن المقاومة خاضت حربها -شبه وحيدة- في ظل وضع عربي شبه يائس، أعقب اليوم الأسود لسقوط بغداد أمام المغول الجدد في 2003. اليوم يمتد محور المقاومة من العراق إلى سوريا إلى إيران، ومن لبنان إلى اليمن وفلسطين، والظرف العالمي بحد ذاته قد تغير، فلم تعد الولايات المتحدة تلك القوة الوحيدة متفردة الحضور والجبروت والقدرة على الساحة العالمية، وهو ما يدفع أكثر باتجاه التفاؤل بما هو قادم، وبأن: "النصر آت آت آت"، وأن معركتنا الحالية هي: "معركة الصمود ومعركة الصبر ومعركة الوقت".
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
12/11/2024
جونسون بعد شيا: وكر الشرّ لا يهدأ
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024