طوفان الأقصى
حرب الإبادة وصراع الحضارات في المفهوم الأمريكي – الصهيوني.. الحرب على غزة نموذجًا
محمد أ. الحسيني
تطرح حرب الإبادة التي تمارسها "إسرائيل" بحق الفلسطينيين، في قطاع غزة، مسألة جوهرية تذهب عميقًا باتجاه التأصيل الديني – العقدي الذي طالما استظلّ به اليهود في تسويغ جرائمهم عبر التاريخ، وتشريع احتلالهم واستيطانهم لأرض الغير. وغنيّ عن الإشارة إلى أن السياسة التي اعتمدها الصهاينة منهجًا ثابتًا ومستمرًا لتفريغ فلسطين من أبنائها تندرج في سياق ترجمة الفكر الاستيطاني الذي أرسته أوروبا على مدى قرون من الزمن، باحتلالها لمعظم الدول والمناطق في العالم، واعتمدته لاحقًا مجموعات الاستيطان الأوروبية التي غزت أراضي ما عُرف فيما بعد بالولايات المتحدة الأمريكية، وطردت سكانها الأصليين ونكّلت بهم وشرّدتهم، وأرست في وقت لاحق ثقافة الرقّ والاستعباد.
تأصيل ثقافة القتل
لعلّ ما يدفع إلى الاستغراب هو حال الرضا التي يشعر بها الصهاينة على مختلف مواقعهم، سواء أكانوا مسؤولين حكوميين أم جماعات استيطانية، إزاء المشاهد الرهيبة التي يندى لها جبين الإنسانية والفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال بلا هوادة من دون تمييز بين طفل وامرأة وبين مدني أو عسكري، بيد أنّ هذه الحال تتبدّد حين نعلم بأن هذا الرضا ليس نابعًا من انعدام الشعور بالإنسانية فحسب، بل لأنه يتبع قناعة تلمودية مؤصلة تكتسب الصفة الدينية، تسوّغ لليهودي إبادة كل ما هو غير يهودي، فإن "الأُمَمِيين هم الحَمِير الذين خلقهم الله ليركبهم شعبُ الله المختار"، وهم "الغوييم" أي الحيوانات السفلة والأشرار والحشرات المتجمّعة في قطيع التي تتحرّك في أسراب - لنا أن نتخيّل مواكب النازحين الفلسطينيين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه في ظل خدعة الهدن المؤقتة التي تعمل واشنطن على اعتمادها- وهذا يعني أن اليهود غير قابلين للعيش مع هذه الفئات "الوضيعة" على أرض واحدة.
ثوابت الانعزال
انطلاقًا من هذا الاعتقاد الراسخ، يأتي تصريح وزير حرب العدو يؤاف غالانت الذي وصف مقاتلي حركة حماس وسكّان قطاع غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، ومن هنا أيضًا يأتي كلام الباحث الصهيوني موردخاي كيدار الذي رأى أن "وصف الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية فيه تحقير للحيوانات". أمّا عزرا ياشين، وهو من قدامى المستوطنين، فقد رأى أن "أعداءنا ليس لهم الحق في أن يعيشوا"؛ ومن هنا جاء تصريح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي طالب نتنياهو بـ"إنشاء مناطق عازلة في الضفة الغربية لا يدخلها العرب"؛ إلا أن التصريح الأكثر شناعة جاء على لسان وزير التراث الصهيوني عميحاي إلياهو الذي دعا إلى ضرب قطاع غزة بالقنبلة النووية لمحو الفلسطينيين من الوجود. وهو ما أثار اعتراضات إسرائيلية، ليس لأنه تصريح فيه كمّ كبير من الإجرام والحقد، بل لكشف شيء من الخلفيات التي تتحكّم بالفكر الصهيوني، و"دمر جهود الدعاية الإسرائيلية"، وفقًا لتعبير عضو الكنيست عن حزب "أمل جديد"، يفعات بيتون، فهو فضح غموضًا اعتمدته "إسرائيل" في إنكار امتلاكها للسلاح النووي، وشكّل إقرارًا بامتلاكها لهذا السلاح.
من هنا؛ نفهم تسمية العدوان الذي يشنّه الاحتلال على قطاع غزة بـ "السيوف الحديدية" استنادًا إلى ما جاء في سفر ميخا (4/12): "قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديدًا وأظلافك أجعلها نحاسًا فتسحقين شعوبًا كثيرين". ومن هنا نفهم، أيضًا، مطالبة الرئيس الأمريكي جو بايدن لرئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو أن تكون الهجمات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة "مركّزة وسريعة ومميتة".
حملة صليبية بطابع صهيوني
كل ما سبق يقودنا إلى تلمّس وجود خلفية تتّصل، في شكل من الأشكال، بصراع حضارات، فلا يمكن عدّ ما يجري، من "تطهير" عرقي في قطاع غزة وفلسطين المحتلة عمومًا، أنه مجرّد نزاع عسكري أو قتال على حدود، بل هو تطبيق حقيقي لمسار تبنّته إدارات أمريكية متعاقبة بدءًا من دوايت إيزنهاور (قبل أن يصبح رئيسًا) الذي استخدم تعبير "الحرب الصليبية" لوصف الإنزال الأمريكي على شاطئ النورماندي، مرورًا برونالد ريغان الذي كان من أوائل منظّري "المحافظين الجدد"، وتنبّأ بأن الصراع القادم هو صراع بين الحضارتين المسيحية (الغربية) والإسلامية (الشرقية)، وصولًا إلى جورج بوش الذي أرهب العالم الإسلامي حين وصف حربه ضد ما يسمّى الإرهاب بأنها "حملة صليبية"، مع ما تحمل هذه العبارة من استحضار لارتكابات الغرب الوحشية باسم المسيح (ع) والكنيسة المسيحية.
واتصالًا بالواقع في فلسطين المحتلة، يحاول نتنياهو إلباس حرب الإبادة للفلسطينيين لبوس "البناء الحضاري" للصراع، على أساس معادلة تحاكي الميزان الأمريكي لتسويغ حروبه في ما يسمّى بمنطقة الشرق الأوسط والعالم، بأنها معركة بين "محور الخير" و"محور الشر". ولم يجد حرجًا في أن يبتزّ الغرب بقوله: "نحن لا نخوض حربنا فقط، بل نخوض حرب جميع الدول والشعوب المتحضرة.. وهي حرب ضد "القاعدة" و"النازيين الجدد" بالنيابة عن القوى الغربية.. وأنها حرب تسعى إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط، ولن يكون مثل هذا السلام ممكنًا إلا إذا دُمرت خلافة داعش"، وهي تعابير ريغان نفسها الذي كان يزعم أن "أوروبا وأميركا مهدّدتان باجتياح فكري ومادي عربي وإسلامي، وأن الصراع هو صراع حضارات، وعلى الغرب أن يعمل لكسبه".
عنصرية الفرز والتصنيف
لا تقف حدود هذه المعادلة عند التصنيف العرقي والثقافي، في خارطة الصراع، بل شكّلت أيضًا في الخطاب التأسيسي الصهيوني الذي يعبّر عنه نتيناهو بأصدق تعبير، فرزًا بين فئتين. فئة تعكس حال التمدّن والحضارة بشقّها التكنولوجي والعلمي والحياتي، وفئة تعكس حال الفقر والجهل والتخلّف. فأضحت التقنيات المتطوّرة والأسلحة الفتّاكة التي يستخدمها جيش الاحتلال شكلًا من أشكال التفوّق الحضاري القادر على التسبّب بخسائر بشرية ومادية فادحة وبأعداد وأحجام كبيرة جدًا، مقابل أسلحة وذخائر بدائية مصنوعة محليًا تستخدمها المقاومة الفلسطينية. وهذا بدوره – وفقًا لمبدأ الفرز الثقافي الصهيوني – يمثّل استدلالًا على تصنيف حركات المقاومة بأنها حركات إرهابية ومعتدية، أما ما تقوم به "إسرائيل" كونها "دولة ديمقراطية"، فهو ليس عنفًا بل "دفاعًا عن النفس"، وتدعمها بذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وتزوّدها بهذه التقنيات المدمّرة تأسيسًا على هذا المفهوم. وبذلك تثبت "إسرائيل" بأنها "دولة أخلاقية"، على أساس ما تقوم به من مجازر وجرائم هو لضرب "الإرهاب" وقتل "الحيوانات" ولتحقيق الأمن للدول المتحضّرة الذي يبدأ بأمنه هي، وينتهي إلى العالم بأسره.
طوق النجاة.. عربي
إن ما يجري من مواجهات بطولية، في قطاع غزة، يتجاوز كونها معركة عسكرية تنتهي بغالب أو مغلوب، بل هي وفقًا لتحليلات وتصريحات غالبية المنظّرين الصهاينة حرب تستهدف المشروع الصهيوني برمّته. وهي كذلك بالفعل، ولئن تجتمع المواقف، اليوم، على تحميل نتنياهو مسؤولية ما وصلت إليه "إسرائيل" من هزيمة واحتمال خطر الانهيار، لا يقع في خانة التهجم الشخصي عليه بقدر ما هو محاكمة مسبقة له، لأنه لم يستطع حماية هذا المشروع، بقطع النظر عن تقييم الوسيلة والأسلوب. ومن هنا؛ نفسّر الاستنفار الأمريكي الشامل، وهو ردّ فعل طبيعي الذي سارع إلى استلحاق ما يمكن فعله لإنقاذ "إسرائيل" من السقوط، إذ نعتقد بأن طوق النجاة لإسرائيل لن يأتي من واشنطن أو عواصم الغرب، بل سيأتي كالعادة من عواصم العرب.. فلننتظر.