طوفان الأقصى
المعركة البرية في غزة: القيود والسيناريوهات في ظل تصدّع إرادة القتال
د.أيمن حلاوي ـ باحث وأستاذ جامعي
منذ بداية الحرب العدوانية على قطاع غزة رداً على عملية طوفان الأقصى المؤلمة، يتّسم الأداء العسكري الإسرائيلي بالانفعالية والغضب وهو ما حذّر منه الرئيس الأميركي جو بايدن خلال زيارته الأخيرة إلى فلسطين المحتلة داعياً حكومة الحرب الصهيونية بمستوويها السياسي والعسكري إلى تحديد الأهداف وتجنب ارتكاب أخطاء مشابهة للتي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر في إشارة إلى غزو العراق وأفغانستان.
تحذير بايدن جاء في وقت لم يحقّق الجيش الإسرائيلي أي إنجاز عسكري يذكر سوى استخدام القوة الغاشمة وإطلاق العنان لآلته التدميرية التي عاثت قتلاً بالمدنيين والنساء والأطفال والتدمير الممنهج لأحياء بأكملها وتهجير السكان من شمال القطاع حيث أشارت وسائل إعلام غربية إلى أن سلاح الجو الإسرائيلي أسقط على في الأيام الأولى من الحرب ما يزيد عن ربع قنبلة نووية واستخدم في يوم واحد قنابل تفوق بعددها ما استخدمته الولايات المتحدة خلال عام كامل في أفغانستان. تهدف هذه السياسة التي درج الكيان على اعتمادها لتعويض إخفاقاته إلى كيّ الوعي الفلسطيني من خلال تحويل القطاع إلى مساحة من الخراب غير قابلة للحياة والاستفادة من سياسة الأرض المحروقة في حال القيام بهجوم بري لاحقاً.
تجريب المجرّب وتوقّع نتائج مغايرة
منذ حرب تموز 2006، لم يطرأ تغيير جوهري على أسلوب عمل الجيش الإسرائيلي حيث اعتمدت معظم جولات القتال مع المقاومة الفلسطينية في غزة على سلاح الجو وفق نظرية يسميها المحللون الصهاينة استراتيجية "قصّ العشب" التي أمّنت للاحتلال قدراً من الهدوء النسبي على حدود قطاع غزة لكنّها في الوقت نفسه أتاحت للمقاومة الفلسطينية مراكمة عناصر القوة تسليحاً وتدريباً وأدّت إلى تلقي الكيان الضربة القاسية في السابع من أكتوبر. بعد مرور ما يزيد من أسبوعين على بدء الحرب التّدميرية على غزة، لا جديد في أسلوب عمل جيش الاحتلال حيث يعيد تجربة ما سمّاه رئيس أركانه الأسبق غايدي أيزنكوت (عضو في حكومة الحرب الصهيونية الحالية) "نظرية الضّاحية" التي تقوم على تكثيف القصف الجوي وقد أثبتت قصورها عن تحقيق الحسم في حرب تموز 2006. كان من تداعيات تلك الحرب إضافة إلى تشكيل لجنة فينوغراد للتحقيق بالإخفاقات تكليف الجنرال الإسرائيلي غابي أشكينازي بمنصب رئيس الأركان عام 2007 وعلى رأس جدول أعماله إجراء إصلاحات وتغييرات في أداء القوات البرية الإسرائيلية ليخلص الأخير إلى استنتاج مفاده أنّه لا بدّ لتحقيق النصر من الدمج بين الـ F16 والـ M16 في إشارة إلى أن حسم الحروب لا يكون بالاعتماد حصراً على سلاح الجو بل يحتّم القيام بمناورة في البر يتمّ فيها إرسال القوات إلى الميدان.
نقص في جهوزية الجيش الإسرائيلي القتالية وانعدام الثقة بالمستوى الإستخباراتي
يتهيّب الجيش الإسرائيلي الإقدام على العمل البريّ خشية تلقّي ضربة أشد إيلاماً من تلك التي تلقّاها في السابع من أكتوبر. لقد تمّ تسويف العمل البري من قبل مجلس الحرب الصهيوني 4 مرات لاعتبارات مختلفة عبر التذرّع تارة باسكتمال الاستعدادات والخطط وطوراً بالمستجدات السياسية (زيارة بلينكن وبايدن ومسؤولين غربيين آخرين) وليس انتهاء بالأحوال الجوية أو إفساح المجال أمام تحرير الرهائن بناء على طلب الدول الغربية.
من أسباب التسويف المتكرّر، عدم جهوزية جنود الجيش الإسرائيلي للقتال حيث أشارت العديد من التقارير إلى تهيّبهم الدخول في قتال المدن ضمن واحدة من أكثر الأماكن ازدحامًا بالسّكان في العالم وفي ظلّ وجود شبكة معقّدة من الأنفاق والإجراءات الدفاعية التي حضّرتها وراكمتها حماس على مرور السنوات. هذا تماماً ما نقله الصحافي الأميركي سيمور هيرش عن "أحد قدامى المحاربين الذين شغلوا منصباً رفيعاً في الجيش الإسرائيلي" بقوله إن "المشكلة الرئيسية التي يواجهها مخطّطو الحرب الإسرائيليون هي التردّد في الانخراط في معركة شوارع من باب إلى باب مع حماس في مدينة غزة" مشيراً إلى "أنّ المخطّطين الإسرائيليين لا يثقون في قواتهم البرية ليس لجهة عدم استعدادها لخوض الحرب فحسب بل لما يمكن أن يكون نقصًا كارثيًا في الخبرة القتالية".
لا يمكن إغفال أنّ من الأسباب المهمّة لاهتزاز الجهوزية القتالية في الجيش الإسرائيلي هو خروج فرقة غزة من الخدمة نتيجة عملية طوفان الأقصى حيث تعدّ هذه الفرقة الأكثر معرفة وإحاطة بأساليب القتال وبمسرح العمليات في غزة. يضاف إلى ذلك، فقدان الثّقة بالمستوى الاستخباراتي على خلفية الإخفاق الاستراتيجي المتمثّل بانعدام التّحذير الجدّي حول تحضيرات حماس لطوفان الأقصى والتشخيص الخاطئ الذي اعتبر أن حماس مردوعة ولا تريد الحرب بعيداً عما كانت تحضّر له خلال فترة طويلة.
وفي تكرار لأخطاء سابقة، رفعت حكومة الحرب الصهيونية سقف أهداف الحرب إلى أقصى حدٍّ ممكن وقد عبّر المستويان السياسي والعسكري عن ذلك بعبارة تغيير الوضع في القطاع والقضاء على حركة حماس حتى أنّ وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت ذهب إلى القول "سنصل إلى جميع الأنفاق وجميع نشطاء حماس وطالما أننا لم نقضِ عليهم فلن ننهي المهمة". هذا ما حذر منه الكاتب يغيل ليفي في صحيفة هآرتس من خلال دعوته إلى وضع أهداف متواضعة أكثر للعملية البرية التي من الأفضل تجنّبها أصلاً.
وفي حال غرق الجيش الإسرائيلي في رمال غزة وتكبّده خسائر فادحة في قواته فإن السقف العالي لأهداف الحرب سيتعرض لانتكاسات "ستحوّل هزيمة إسرائيل التكتيكية المذّلة على أيدي حماس إلى أزمة استراتيجية أخلاقية وعسكرية طويلة المدى" كما قال الكاتب توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز.
في المحصّلة، يبدو أن السلوك الانتقامي الذي يعتمده قادة المستويين السياسي والعسكري في الكيان في محاولته لتهدئة الجمهور الغاضب يمثّل خطأً فادحاً في هذه اللحظة الحرجة حيث يحلّ محلّ التّفكير الاستراتيجي السليم.
قيود تحكم العملية البرية
من الاعتبارات الوازنة التي أدت حتى الآن إلى تأجيل الهجوم البري، محاذير الإدارة الأميركية غير الراغبة في تدحرج الحرب وإشعال المنطقة بما لا تنسجم مع أولويات واشنطن ورسائل النار التي يوجّهها حزب الله على الجبهة الشمالية والمصحوبة بغموض بناء محيّر في ما يتعلّق بقرار الانخراط في المواجهة فضلاً عن تحرّكات محور المقاومة لاسيما في اليمن والعراق وسوريا للضغط على الولايات المتحدة الراعية والداعمة والشريكة في سفك الدّم الفلسطيني من أجل إيقاف الحرب على غزة.
إضافة إلى الحرص على عدم امتداد الحرب إلى جبهات أخرى حيث "لا مصلحة لإسرائيل بذلك"، يرى رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إيهود باراك أن العمليّة البريّة الإسرائيلية محكومة بقيود أخرى أبرزها قضية الرّهائن ومصيرهم بحال تنفيذ هجوم بري ومستقبل قطاع غزة في حال نجاح القضاء على حماس وعامل الوقت حيث يشاهد العالم مشاهد الدمار ومعاناة المدنيين في قطاع غزة.
أبرز سيناريوهين للعملية البرية
كشف وزير الحرب الصهيوني يؤاف غالانت عن إقرار خطة من ثلاث مراحل تبدأ بحملة عسكرية بالنار ثم المناورة بهدف تدمير البنية التحتية وهزيمة حماس يليها استمرار القتال في المرحلة الثانية بكثافة أقل يتمّ فيها التعامل مع جيوب المقاومة فيما يجري في المرحلة الثالثة إنشاء نظام أمني جديد في قطاع غزة وإزالة مسؤولية "إسرائيل" عن الحياة اليومية فيه. اللافت في خطّة غالات المفرطة في الطموح استخدام كلمة مناورة بدل الهجوم أو الاجتياح البري بما يعكس الخشية من استقرار قواته في القطاع وتعرضها لحرب استنزاف لا يقوى المجتمع الصهيوني على تحمّل خسائرها البشرية العالية.
من بين السيناريوهات العملياتية المتداولة للهجوم البري، الدفع بقوات عبر محور تقدّم رئيسي في شمال القطاع الذي تعرض لتدمير وتهجير منهجيين تحديداً عبر معبر إيريز ومنه إلى أقصى الطرف الشمالي من القطاع، فضلاً عن محاور أخرى تشمل المناطق المفتوحة جنوب مدينة غزة وشمالها بهدف تشتيت الجهد وتقييد المرونة الدفاعية لفصائل المقاومة.
يعتقد بعض المحللين العسكريين أن تحقيق هدف القضاء على حماس يحتّم أن يكون الغزو البرّي واسع النطاق ومصحوباً بنيران هائلة بحيث تكون الساعات الأربع والعشرين الأولى منه سريعة للغاية مع دخول القوات بأسلوب غير متوقّع وساحق يتم خلاله الدّفع بأربع فرق إلى جانب القوة البحرية والقوات الخاصة والتقدّم السريع واحتلال مدينة غزة التي تضمّ البنية العسكرية والسياسية الأساسية لحركة حماس. لكنّ من يطرحون هذا السيناريو يشيرون إلى أن كلفته البشرية باهظة من حيث الخسائر ويمكن أن يشكّل فشله ضربة أقوى من ضربة السابع من أكتوبر.
يذهب رأي أخر إلى أن العملية البرية ستكون محدودة وستركّز على تدمير شبكة الأنفاق الضّخمة التي تملكها حماس من دون الاضطرار بالضرورة للدخول إلى عمق القطاع. وعليه يقوم السيناريو الأكثر ترجيحاً بحسب هؤلاء على تكثيف القصف وتدمير البنية التحتية في غزة ودفع سكان القطاع جنوباً والقيام بعملية برية محدودة تبحث من خلالها إسرائيل عن صورة نصر ثم تنسحب من القطاع.
يلتقي هذا السيناريو مع ما كشفه الصحافي الأميركي سيمور هيرش عن أنّ الخطة الإسرائيلية تقوم على تدمير المباني المتبقّية في مدينة غزة ومناطق أخرى شمال القطاع لتبدأ بعدها غارات جوية تستخدم فيها قنابل أميريكية خارقة للتحصينات يصل وزنها إلى 5000 رطل من نوع JDAM حيث يعتقد المخططون الإسرائيليون أنّ النّسخة المطوّرة منها ستخترق عمقًا من ثلاثين إلى خمسين مترًا تحت الأرض قبل أن تنفجر محدثةً موجة انفجارية كفيلة بقتل الجميع ضمن شعاع نصف ميل. يستتبع استخدام هذه القنابل بعمليات برية لتطهير المنطقة ممّن ينجو من مقاتلي حماس. في معرض انتقاد هذه الخطة ينقل هيرش عن مسؤول استخباراتي أوروبي قوله إن عملية حماس في السابع من أكتوبر كانت مخطّطة بعناية ومن المفترض أنّها تأخذ رد الفعل الإسرائيلي بعين الاعتبار وبالتالي قد تكون الحركة بنت أنفاقاً على عمق يزيد عن ستين متراً تحت الأرض لتكون قادرة على حماية قادتها وعناصرها من هذه القنابل.
ختاماً، بات واضحاً أن القصف التدميري مهما استمر لن يحقّق لـ"إسرائيل" هدفها المتمثّل بالقضاء على حماس التي نجحت إلى الآن في حماية بنيتها وقدراتها العسكرية. ومع الإمعان الإسرائيلي في انتهاك كل مبادئ ومواثيق الحرب وفي ظلِّ الحرص الأميركي على عدم التورّط في معركة متعدّدة الجبهات، يبدو أن هامش الوقت المتاح أمام الجيش الإسرائيلي لن يكون بالمرونة التي يأملها المستويان السياسي والعسكري في الكيان حيث سيكون عليهما أن يحسما القرار حول القيام بـ "مناورة برية" من عدمه وأن يحذرا الوقوع في حسابات خاطئة غالباً ما يؤدي إليها السلوك الانفعالي الغاضب الذي اتّسم به أداؤهما ما دفع بالولايات المتحدة إلى التدخل لتشكيل حكومة الحرب الحالية وفرض وصايتها على صناعة القرار فيها.