خاص العهد
الفلسطينيون: شعبٌ من حديد
فاطمة سلامة
منذ سنوات، توثّق عدسات الكاميرا مشاهد حيّة لأطفال ونساء وشيوخ وشبان فلسطينيين يتحدّون "البعبع" الإسرائيلي. مواقف "مذهلة" يتحدّى فيها الطفل الصغير آلة الحرب "الإسرائيلية" فيرشقها بالحجارة غير آبه بالموت. وفي بعض اللقطات، تهاجم امرأة فلسطينية مسنة جنديًا "إسرائيليًا"، تصرخ في وجهه. إحداهن تحمل سكينًا وتتجه نحو حاجز "إسرائيلي". أما شبان فلسطين، فحدّث ولا حرج عن بأسهم. يملكون من العزيمة والشجاعة والصلابة ما يكفي. لا ينتظر هؤلاء إمدادهم بالمعدات العسكرية ليثأروا. سلاحهم حجر وسكين وما تيسّر أمامهم من أدوات يُرهبون بها عدو الله وعدوهم.
اليوم، ورغم كل الصور الثقيلة المروّعة القادمة عبر الحدود من قطاع غزة. تلك الصور التي يسود الصمت في حضرتها، حيث لا كلمة تصف الإجرام "الإسرائيلي"، وكل ما يُقال في رحابها قليل، يُظهر الفلسطينيون أعلى درجات البأس والشجاعة. رغم فظاعة المشاهد، تراهم يتمسكون بالصبر. في إحدى اللقطات تظهر امرأة تحمد الله على شهادة ولدها، وفي لقطة أخرى، يحمل شاب فلسطيني "كرتونة" في يده، يُجيب لدى سؤاله عنها بأنها "وسادة" يفترشها لينام فوق أنقاض منزله. يُردّد بثقة أنه "لن يترك فلسطين". مقطع فيديو آخر يدعو للذهول، يقول رجل تحوّل منزله أثرًا بعد عين: "لن نذهب الى مصر، هم لا يعرفون طبيعة الفلسطيني، اليوم ماتوا أولادي وأخواتي لكنني "مزروع" هنا، وسأرفع الركام، وإن كان نتنياهو رجلًا فليضرب مرة جديدة". يتابع الرجل كلامه بعنفوان يُضرب به المثل رافضًا كل خطط التهجير: "نتنياهو هبيلة، لن نذهب الى مصر، سنذهب الى القدس".
ما سبق من صور يشكّل عيّنة صغيرة جدًا من مجتمع لا يعرف لليأس طريقًا. ما تتناقله وسائل الإعلام منذ نحو أسبوعين ليس سوى غيض من فيض ما يعانيه الفلسطيني منذ نكبته عام 1948 وهو الذي يُقتل منذ عقود مئة مرة يوميًا ظلمًا وعدوانًا. المتابع لأخبار فلسطين منذ ما قبل الحرب على غزة تطالعه يوميًا أخبار اعتقالات ومواجهات واستفزاز مشاعر المسلمين باقتحام الأقصى وتنكيل بالأسرى، وخناق معابر وما الى هنالك من حياة معدومة للفلسطيني. وفي المقابل، يُظهر الشعب الفلسطيني أعلى درجات القوة والثبات والعزيمة والإرادة في مواجهة المحتل وإفشال مخططاته في ظاهرة اجتماعية تستحق أن تُدرس: شعب مسلوب الحياة والوطن، ينضح بأسًا، مُفعم بعزيمة المقاومة وثقافة الاستشهاد، يرفض الذل والاستسلام.
ظاهرة الثبات والتحدي تعود لجملة عوامل
أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي يقرأ في تركيبة الشعب الفلسطيني، فيلفت الى أنّ ظاهرة الثبات والتحدي والشجاعة التي يُظهرها هذا الشعب اليوم تأتي من عدة عوامل على رأسها الظلم "الإسرائيلي" والحصار الذي لم يترك للشعب الفلسطيني خيارًا. لم يعطهم الكيان المحتل أي فرصة، حتى أنّ التفكير بما تُسمى الحلول السياسية كـ"أوسلو" وغيرها بيّنت أنّ الأفق مسدود، و"الإسرائيلي" يرفض وجود الفلسطيني مُطلقًا في فلسطين. وعليه، عندما تقرأ الأجيال الفلسطينية تاريخ اليهود والمحتل المفعم بالمجازر والطريقة التي تعاملت بها "إسرائيل" مع الشعب الفلسطيني يتولّد لديها الشعور بالتمرد، ناهيك عن التضييق الذي يعيشه الفلسطيني اليوم وعدم السماح له بالتنقل دون إذن، والمعابر والحواجز المنتشرة في كل مكان من وطنه، ما ولّد لديه شعورًا بالاختناق، كانت نتيجته طبعًا إنسانيًا متمردًا على الواقع والمظلومية التي فرضت عليه.
يُشدّد عتريسي على أنّ الطفل والشاب والمرأة الفلسطينيين كسروا هيبة الجندي "الاسرائيلي" وعُقدة الخوف منه، وهذا ما يبدو جليًا في المواجهات شبه اليومية. الصور توثّق كيف تدفع المرأة الجندي "الإسرائيلي" وتقف صدًا منيعًا في وجهه كي لا يأخذ ابنها الشاب الذي يُقاتل بدوره رغم ضربه. أما الطفل فيقف في وجه الجندي ولا يخاف. هذه القوة أتت نتيجة تراكم ظلم وخنق ورفض، ما ولّد الشجاعة والثبات. هذا فضلًا عن أن لا خيار أمام الفلسطيني سوى المقاومة أو التهجير. الرحيل لا يبدو واردًا في حسابات الفلسطيني الذي لم ينس النكبة بعد، وهو الذي لا خيارات أمامه خاصة أنّ المجتمع الدولي لم يُعطه دولة.
كل هذه الظروف تحشر الفلسطيني في زاوية ضيّقة ــ يقول عتريسي ــ ما يولّد لديه روح التمرد والقتال، فيما لم تؤثّر عليه كل أساليب القصف والقتل والإجرام ولم يستسلم لأنّه مسلوب الحقوق في مختلف الحالات. هذه التراكمات على مدى 70 عامًا، أوجدت ثقافة المقاومة والثبات، وبالتالي قدّمت النموذج الفلسطيني القوي الذي نراه اليوم.
يعرف أحقية قضيته
الأخصائي في طب النفس الدكتور فضل شحيمي يقارب الصلابة التي يُظهرها الفلسطينيون على تنوع فئاتهم العمرية بالقول: "إنّ صبر ومقاومة الشعب ليست عن عبث. الفلسطيني قوي، لأنه يعرف أحقية قضيته". في الطبيعة البشرية، اذا أردنا المواجهة وامتلكنا اليقين بأحقية القضية نكون أقوى ويرتفع لدينا منسوب الشجاعة ــ يقول شحيمي ــ أما من الناحية النفسية، فيكون لدينا ثقة بالنصر وإن كنا جسديًا أو ماديًا ضعفاء فأحقية القضية لدى الإنسان تُشعره بالقوة عكس "الاسرائيلي" الذي يعرف ضمنًا أنه ليس على حق، لذلك نراه أحيانًا متردّدًا، جبانًا، معدوم الانتماء، فهو يعرف علميًا أنّ هذه الأرض ليست أرضه، وهنا نقطة الضعف "الاسرائيلية" مقابل نقطة القوة الفلسطينية.
من جهة ثانية، لم يترك "الاسرائيلي" للشعب الفلسطيني مجالًا لأي خيار. وعليه، بات الفلسطيني يعرف أن الهدف الوحيد لديه هو الشهادة لأنه أصلًا مسلوب كافة الحقوق، والحق الوحيد المتبقي لديه هو الدفاع عن قضيته. يتفق شحيمي مع عتريسي في أنّ القوة تولدت لدى الإنسان الفلسطيني لأننا لم نعطه خيارات أخرى، ولو أعطيناه خيارات ثانية قد لا يكون بهذه القوة والشجاعة والصبر. لو قدّر له أن يعيش عيشة كريمة لكان اختلف المشهد ربما، خاصة أنّ الفلسطينيين لديهم نقمة على العالم الذي تركهم لقدرهم يُصارعون مصيرهم ما ولّد لديهم قناعة تامة بأنّ الحل الوحيد هو المقاومة مع تبعاتها. لذلك، نراهم عن حق أقوياء يقدّمون أولادهم وأنفسهم على درب الشهادة.