آراء وتحليلات
الاعتلال الفكري وسبل معالجته.. تفجيرا باكستان الأخيران نموذجاً
د.علي أكرم زعيتر
هناك أربعة أنواع من الأطباء، عادةً ما نلتقي بهم في حياتنا اليومية، هم:
١ــ الطبيب العضوي وهو الذي يُعنى بمداواة الجسد، إذا ما تعرض لداء أو إعياء.
٢ــ الطبيب النفسي، وهو الذي يُعنى بمعالجة الاضطرابات النفسية.
٣ــ الطبيب الروحي، وهو عالم الدين، ومهمته تشخيص الأمراض الروحية ومداواتها بالعبادات والأذكار والامتناع عمّا حرم الله.
غالباً عندما نزور طبيباً عضوياً، فإنه يقدم لنا قائمة بالأطعمة التي ينبغي أن نتجنبها لئلا تتفاقم حالتنا الصحية. الأمر ذاته بالنسبة للطبيب الروحي، فهو يقدم لنا قائمة بالمحرمات التي وضعها الله درءاً للمخاطر التي قد تلحق بأرواحنا فيما لو قاربناها أو اقترفناها.
٤ــ طبيب الفكر، وهو يُعنى بتقويم الاعوجاج الفكري لدى بعض مرضى الفكر. مثال ذلك: رجل يعتقد أن الأرض مسطحة، رغم كل الدلائل والمؤشرات التي قدمتها وكالة الفضاء الأميركية ناسا وسواها من المؤسسات العلمية الرائدة في مجال الجيوفضاء. رجل كهذا لا يمكن معالجة حالته الخطيرة هذه إلا من خلال طبيب متخصص في مجال الفكر، سمّه مفكراً، أو عالماً، أو باحثاً، أو فيلسوفاً، أو أكاديمياً. سمِّه ما شئت، المهم أنه الوحيد القادر على تقويم الاعوجاج الفكري لدى ذلك المريض.
التكفيريون الذين يملؤون الآفاق شروراً، هؤلاء يعانون من انحرافات فكرية خطيرة هي أشبه بالداء الفتاك. وما لم يتولَّ معالجتهم طبيب متخصص في مجال الأمراض الفكرية، فإنه من المتوقع أن تتفاقم حالتهم الفكرية سوءاً، إلى أن يصل بهم الحال حدَّ إيذاء وإراقة دماء كل من لا يشاركهم فكرهم المنحرف بحجة الكفر والردة.
التفحيران الآثمان اللذان وقعا في باكستان قبل أيام، واللذان استهدفا مجموعة من المسلمين المحتفين بولادة رسول المحبة والرحمة محمد صلى الله عليه وآله. لم يقترفوا أي ذنب سوى أنهم عشقوا محمداً، وأرادوا أن يعبروا عن عشقهم له بطريقتهم، فكان جزاؤهم أن قُتلوا وتناثرت أجسامهم لتكون كل ذرة من ذراتهم شاهداً على إجرامِ فكرٍ لم يرعَ في أتباع نبي الرحمة إلًّا ولا ذمة.
بيان حزب الله الشاجب والرافض للجريمة، كان واضحاً في تعيين المجرم وتحديد هويته. لم يستغرق الأمر الكثير من التفكير والبحث لتحديد الجهة المسؤولة، فالجناة معروفون مهما اختلفت أسماؤهم. وسواء كانوا في سورية أو مصر أو فلسطين المحتلة أو باكستان أو أفغاستان. فتِّش عن الجماعات الوهابية المنحرفة وعن داعميها من أجهزة الاستخبارات الغربية والصهيونية.
في كل مرة يقدم لنا هؤلاء دليلاً قاطعاً على أنهم لا يستهدفون فئة بعينها أو مذهبًا بعينه. كل مختلف عنهم لا يشاركهم أفكارهم، حتى لو كان مسلماً سنياً فهو ضحية محتملة لإرهابهم، واسمه من ضمن قائمة الأسماء التي لا بد من تصفيتها. وما حدث في باكستان خير دليل. فأولئك الذين قضوا في التفجيرين الآثمين لم يكونوا من المسلمين الشيعة ولا من بقية المذاهب. وإنما كانوا مسلمين سنة (تحديدًا من المتصوفة البريلوية)، إلا أن سنيتهم لم تشفع لهم.
بهذه العقلية المتحجرة يعمل هؤلاء. وبهذا الأفق الضيق يسطرون فتاويهم الباعثة على القتل والإرهاب. فهل من طبيب فكري يشخِّص حالتهم المرضية ويصف لهم الدواء المناسب، أم أن الأمة ستبقى ترزح تحت وطأة تكفيرهم وإرهابهم إلى يوم يبعثون. وأيُّ الطرق هي الأنجع لدرء خطرهم: الاحتواء الفكري عبر محاولة إعادة تأهيلهم، والتناقش معهم، أم الاجتثاث والتشريد في الآفاق، كما حصل معهم في سورية والعراق وبؤر أخرى كثيرة؟
يبدو أن تلافي خطر هؤلاء، لا يكون إلا من خلال العمل على منحيين:
ـــ المنحى الأول، المعالجة الفكرية، ولا يكون ذلك إلا من خلال التناظر والتناقش وتبادل الأفكار، وإن كنا نشك في مدى قابلية هؤلاء واستعدادهم لتقبل الرأي الآخر. حيث أثبتت التجارب الماضية أنهم لا يمتلكون حساً نقدياً، وليسوا مستعدين لمراجعة أي من الأفكار التي يتبنونها.
هناك ما يوحي، بأن هؤلاء لا يمكن أن يتراجعوا عن أي طرح من طروحاتهم، إلا إذا أقمنا ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب من مرقدَيهما، وأقنعناهما بالعدول عن طروحاتهما الشاذة. غير ذلك، من المستحيل أن يتقبل هؤلاء أي نقد.
في حقبة التسعينيات، أجرى العديد منهم مراجعات فكرية، فعدلوا عن كثير من المضامين الفكرية العنيفة والإقصائية، ولكنها بقيت في إطار المحاولات الفردية. نذكر منهم على سبيل المثال: قادة الجماعات التكفيرية في الجزائر، وبعض قادة جماعة الجهاد في مصر على غرار القيادي ”سيد إمام الشريف“ الذي وضع مؤلفاً رد فيه على أيمن الظواهري، وفنَّد من خلاله الأسباب الموجبة لوقف العنف ضد الحكومة المصرية.
في سورية مؤخراً، وبعد الهزيمة المدوية التي تلقتها داعش وأخواتها هناك، أجرى العديد من العناصر المنضوين تحت لواء هذه الجماعات مراجعات ذاتية، توصلوا من خلالها إلى ضرورة نبذ العنف. ولكن الملاحظ في هؤلاء أنهم لم يكونوا من قادة الصف الأول. وإنما كانوا في غالبيتهم من العناصر الهامشيين.
نحن، لا نود في هذه السطور الموجزة أن نصدر حكماً مبرماً في حق هؤلاء، كأن نغلق باب التفاهم معهم إلى الأبد. فتجربة حركة طالبان في أفغانستان ــ وإن كانت طالبان لا تُحسب على الفكر الوهابي نظراً لتبنيها فكراً آخر موازياً ــ كانت مشجعة، حيث عادت الحركة إلى ممارسة دورها السياسي الفاعل في البلاد بعد اندحار القوات الأميركية عنها. كما أن علاقتها بجارتها الغربية (إيران) مستقرة نوعاً ما، فضلاً عن علاقتها الودية مع العديد من الدول المجاورة، وحتى مع الفصائل المحلية التي تتبنى فكراً آخر. من قبيل حزب (الوحدة الإسلامية) الذي يمثل قومية الهزارة، وهي بالمناسبة قومية مختلفة عن قومية البشتون التي ينتمي معظم أفراد حركة طالبان إليها، وأبناء هذه القومية (الهزارة) في غالبيتهم من المسلمين الشيعة.
ـــ المنحى الثاني، الاجتثاث أو الاقتلاع. هناك مثل عربي شائع يقول: آخر الدواء الكي. فعندما تفشل كل محاولات الاستطباب التقليدية عادةً ما كان العطَّارون والأطباء القدماء يلجؤون إلى الكي. وفي حالة الجماعات التي تحمل فكراً ظلامياً، فإن الفشل في المعالجات التقليدية (الإقناع) يحتم على الطبيب أن يلجأ إلى الاستئصال، وقد سبق وأن أشرنا إلى التجربتين السورية والعراقية ومن قبلهما المصرية والجزائرية حيث عمدت الحكومات المحلية هناك إلى ضرب الجماعات التكفيرية وتفكيكها، وبالتزامن مع ذلك حاولت أن تتواصل مع بعض عقلاء تلك الجماعات عسى أن تصل معهم إلى كلمة سواء.
٧٤ شهيداً، وما يزيد عن ٩٢ جريحاً، في تفجيرين منفصلين، ولكنهما متزامنان. هذه حصيلة ضحايا الفكر الإرهابي الذي عصف بباكستان قبل أيام، فإلى متى؟ وحتَّام يبقى مسلمو ذلك البلد الرابض على تخوم آسيا الشرقية يرزح تحت وطأة هذا الفكر الظلامي؟ أما آن لليل المسلمين أن ينجلي؟ أما آن للفكر الوسطي المتسامح الذي تتبناه قم والأزهر الشريف والنجف الأشرف وجامع الزيتونة في تونس أن يبسط جناحيه على العالم الإسلامي؟ أما آن للمؤسسات المسؤولة عن نشر فكر الشيخ ابن عبد الوهاب أن تنقح مناهجها الدراسية، وأن تعيد قراءة تراث الشيخ بطريقة نقدية معاصرة؟
أسئلة كثيرة نضعها برسم المعنيين بها، قد لا نجد لها إجابات في الوقت الراهن أو حتى في المستقبل المنظور، ولكن مجرد طرحها كفيل بإخراج الأرنب من جحره، وبإحراج الجهات الداعمة والممولة لهذه الجماعات.
الارهابالمولد النبوي الشريفالوهابية
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024