معركة أولي البأس

ترجمات

الوجه الاخر لكيسنجر(2): دوره في القضاء على استقلال تيمور الشرقية
04/10/2023

الوجه الاخر لكيسنجر(2): دوره في القضاء على استقلال تيمور الشرقية

د. علي دربج باحث واستاذ جامعي
قد يكون مفهوما لسكان الكرة الارضية، ان تمنح جائزة نوبل (وبالمناسبة نعيش هذه الأيام الاحتفالية السنوية بها) دون تمييز للشخص الذي قدم أكبر منفعة للبشرية في مجالات، كما اوصى مؤسسها العالِم ألفريد نوبل، غير ان الفضيحة الكبرى، وما لا يمكن استيعابه مطلقا، ان تذهب لرجل مسؤول عن إزهاق آلاف الأرواح البشرية البريئة كهنري كيسنجر.

صحيح أن هذه الشخصية تقمصت دور حمامة سلام في العقود الاخيرة من عمرها، لكن الجانب المظلم لكيسنجر يطغى على مسيرة هذا الرجل نظرا  لدوره في تدمير الديمقراطية التشيلية وتوطيد دكتاتورية اغستو بينوشيه (أحد أشهر رجالات الولايات المتحدة المجرمين في أمريكا الجنوبية)، والفظائع التي ارتكبها المجلس العسكري الأرجنتيني (حينما قال كيسنجر لوزير خارجية البلاد آنذاك: "إذا كانت هناك أشياء يجب القيام بها، يجب أن تفعلها بسرعة"،  فضلا عن بصماته في إطالة أمد حرب فيتنام من خلال تخريب محادثات السلام التي أجراها ليندون جونسون عام 1968، إضافة الى الغزو الإندونيسي والاغتصاب اللاحق لتيمور الشرقية، والغزو التركي لقبرص في عام 1974، والتخلي عن الأكراد العراقيين، وتمديد حرب فيتنام إلى لاوس وكمبوديا، والانتهاكات التي ارتكبها الجيش الباكستاني في شرق باكستان (بنغلاديش الآن).
 
هل كيسنجر مجرم حرب؟

في الواقع لا يمكن الفصل بين المسؤولية السياسية والأخلاقية والتاريخية وبين المعاناة الإنسانية الجسيمة والمسؤولية الجنائية. وبالتالي هذا يقودنا الى الاستنتاج أن سياسات كيسنجر أدت إلى مئات الآلاف، وربما الملايين، من الوفيات، اي بالمعنى القانوني الدقيق، الرجل يعدّ مسؤولاً عن هؤلاء الضحايا.

ما الدور الذي لعبه كيسنجر في غزو تيمور الشرقية؟

في الحقيقة تشكل تيمور الشرقية مثالاً آخر على "مساعدة وتحريض" كيسنجر على جرائم دولة عميلة تابعة للولايات المتحدة. في العام 1969، وفي محاولة لإبقاء إندونيسيا بشكل كامل في معسكر الحرب الباردة الأمريكية، وضع كيسنجر موافقته على استفتاء مزيف في مقاطعة بابوا في الجزيرة، التي كانت تسعى للاستقلال عن إندونيسيا. لذا اختار أن يكون هناك شخصياً أثناء "الانتخابات" التي قامت إندونيسيا فيها بإحصاء أصوات 1100 "ممثل" تم اختيارهم بعناية من سكان بابوا فقط، والغريب أن هؤلاء صوتوا بالإجماع لصالح البقاء جزءا من إندونيسيا.

ومع ان هذه المنطقة لم تكن ذات أهمية استراتيجية لامريكا في بحر الصين الجنوبي، غير ان التمسك بولاء حاكم إندونيسيا الديكتاتوري المناهض للشيوعية الرئيس حاجي محمد سوهارتو كان يعتبر أمراً حاسماً لسياسة واشنطن الخارجية في الحرب الباردة في آسيا. فسوهارتو نفسه، كان وصل إلى السلطة بعد موجة من الإبادة الجماعية، تم خلالها ذبح ما بين 500 ألف و1.2 مليون من الشيوعيين المفترضين و"المتعاطفين معهم".

اما المثير في الامر، فهو انه بعد إعلان استقلال تيمور الشرقية عن البرتغال في عام 1975، أعطى كيسنجر والرئيس جيرالد فورد الضوء الاخضر ـــ  خوفًا من أن تصبح الدولة الجديدة موقعًا شيوعيًا ـــ  للرئيس الإندونيسي سوهارتو لغزو الجزيرة، في اجتماع كان عقد بجاكرتا في اليوم السابق للغزو الفعلي.

كيف تحايل كيسنجر على القانون الأميركي لتزويد اندونيسيا بالسلاح الفتاك؟

في انتهاك للقانون الأميركي، قامت إدارة الرئيس جيرالد فورد (التي واصل فيها كيسنجر العمل كمستشار للأمن القومي ووزير الخارجية بعد استقالة نيكسون) بتزويد الجيش الإندونيسي بالأسلحة والتدريب. ولوح كيسنجر ــ عند بروز أي مخاوف قانونية ـــ بقوله المأثور المفضل: "ما هو غير قانوني نقوم به على الفور، ما هو غير قانوني نقوم به على الفور، ما هو غير قانوني نفعله على الفور". فالطرق غير الدستورية تستغرق وقتًا أطول قليلاً.

وكانت الولايات المتحدة آنذاك تزود الجيش الإندونيسي بـ 90% من أسلحته،  ولهذا وصف كيسنجر نفسه العلاقة بينهما بأنها علاقة "العميل المانح"، فجميع المعدات العسكرية المستخدمة في الغزو تقريبًا، قدمتها الولايات المتحدة.

ومع ارتفاع عدد القتلى المدنيين من الغزو إلى عشرات الآلاف، ضمن كيسنجر استمرار تدفق الأسلحة الأمريكية إلى القوات الغازية، بالرغم من القيود التي فرضها الكونجرس في المادة 502B(a)(2)  من قانون المساعدة الخارجية ضد استخدام الأسلحة الأمريكية، في انتهاج صارخ وفاضح لحقوق الإنسان، كما ضرب عرض الحائط بالاتفاق الثنائي (في الكونغرس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري) الذي ينص على أنه لا يمكن استخدام الأسلحة التي توفرها الولايات المتحدة إلا لأغراض دفاعية.

وتبعا لذلك، تظهر مذكرة مؤرخة في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1975 أن كيسنجر دخل في خلاف حاد مع موظفيه بسبب كتابتهم مذكرة داخلية تتعلق بالمشاكل القانونية المرتبطة باستخدام الأسلحة الأمريكية للغزو. لذا قرر كيسنجر حينها حل المشكلة القانونية من خلال إخبار الكونغرس بأن المساعدات سوف يتم قطعها "بينما ندرس" القضية، ولكن المساعدات "ستبدأ مرة أخرى في كانون الثاني/ يناير". وهكذا سارت الامور، حيث تم فرض "تعليق معدل للمساعدات العسكرية" لإندونيسيا لمدة ستة أشهر، ولكن بالاسم فقط.
 
أما على ارض الواقع فقد استمرت المعدات العسكرية الموجودة بالفعل في التدفق، وخلال فترة "المراجعة" التي استمرت ستة أشهر، قدمت الولايات المتحدة أربعة عروض جديدة لبيع المعدات العسكرية إلى إندونيسيا، بما في ذلك الصيانة وقطع الغيار للطائرات المصممة خصيصًا لعمليات مكافحة التمرد والمستخدمة أثناء الغزو.

أكثر من ذلك، زادت المساعدات العسكرية الأمريكية لجاكرتا بأكثر من الضعف من عام 1974 إلى عام 1976، من 17 مليون دولار إلى 40 مليون دولار، والتي تضمنت 16 طائرة لمكافحة التمرد وثلاث طائرات نقل و36 سيارة مدرعة، وقد  استخدمها وفقا لجلسة استماع في الكونغرس عام 1977، مباشرة في تيمور الشرقية.

ما تجدر معرفته هنا، وبحسب المسؤولين الامريكيين، فقد جرى استخدام الطائرات لرش المواد الكيميائية، فيما أمر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إندونيسيا بالانسحاب، لكن دون جدوى. والمخزي ان سفير الأمم المتحدة آنذاك دانيال باتريك موينيهان (واستنادا لمذكراته) كان فخورا  بتعطيل اي تحرك للأمم المتحدة وجعلها "غير فعالة تماما في أي تدابير اتخذتها".
 
في المحصّلة كان الفعل الإجرامي الذي أطلقه كيسنجر  يتمثل بهذه "المساعدة العملية" التي كان لها "تأثير كبير" على الجرائم الإندونيسية. وعليه، وجد التقرير النهائي للجنة الاستقبال والحقيقة والمصالحة التاريخية في تيمور الشرقية أن "الدعم السياسي والعسكري الأمريكي كان أساسيًا للغزو والاحتلال الإندونيسي" لتيمور الشرقية. وبالتالي يمكن  رؤية بصمات كيسنجر، وليس أي شخص آخر، بما في ذلك فورد، لا سيما وأنه كان صاحب القرار في تقديم هذا الدعم، (بحسب) معظم محاضر الاجتماعات ومذكراتها.
 
الحلقة الاولى: الوجه الآخر لكيسنجر (1)
في الحلقة الثالثة: عندما عمل كيسنجر على إطالة حرب فيتنام، واشرف على قصف كمبوديا بمبيدات مسرطنة.

اندونيسياتشيليالفلبينتيمور الشرقية

إقرأ المزيد في: ترجمات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة