آراء وتحليلات
الانتخابات المصرية.. الخيارات المرّة
أحمد فؤاد
"العلم المنسوج من حلاوة النصر ومن مرارة النكبة
خيطًا من الحب.. وخيطين من الدماء
العلم المنسوج من خيام اللاجئين للعراء
ومن مناديل وداع الأمهات للجنود
في الشاطئ الآخر..
ملقى في الثرى
ينهش فيه الدود
ينهش فيه الدود.. واليهود".
أمير شعر الرفض العربي أمل دنقل.
تحمل نسمات الخريف دائمًا إلى القاهرة القلق المعبأ بالمخاوف وظنون الأسوأ، ليس باعتبار نهاية أيلول/ سبتمبر نهاية لحياة الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر، ولا لإنها بداية أكثر الانقلابات السياسية في العالم العربي ترويعًا، لكن أيضًا لأن العام الحالي 2023 يشهد انتخابات رئاسية تحمل كل ما يمكن أن يحمله حدث واحد من دلالات السقوط المستمر والمهين، وتشكل الفارق المهيب بين كل ما كان في عاصمة المعز يومًا، وكل ما يحمله المستقبل من آلام انتحار جماعي قادم، سريع أو بطيء، لا فرق عاد يذكر أو معنى.
عبد الناصر في الحالة المصرية، وربما تتوسع عربيًا، ليس هو الوثن في الوجدان الجمعي لأمته، بل هو الفكرة النبيلة الحاضرة دائمًا بإلحاح، المشروع الحقيقي المتكامل الذي نبت هنا على ضفاف النيل وأثمر، فترة الزهو والعنفوان للكرامة المصرية والإرادة المصرية والقدرة الخلاقة حين تجسدت أحلام أمة في رجل، وحين عبر هو عنها وقادها في سلسلة من التحديات، أخفق حينًا وانتصر في أحيان أخرى، وبقى رغم كل ذلك عنوانًا للصدق وضميرًا نابضًا لناسه، وحلمًا عذبًا بالخلاص، وسيظل شاهدًا أرقى على إدانة كل من جاء بعده، الكل لا استثناء لأحد أو لطريق.
ما تعنيه هذه الفكرة ببساطة وإيجاز شديدين هي تبني المقاومة، نهجًا موضوعيًا وعمليًا للمواجهة قضايانا وتحدياتنا، روح وقلب هذه المقاومة وأول مبادئها هي رفض هذا الواقع المرتهن للخارج تمامًا، كسرًا لشروط اللعبة الأميركية، إيمانًا ويقينًا أننا نستطيع أن نفعل ضد ما تريده واشنطن، وسنعيش، إنها الخطوة الأولى في سبيل حياة حرة وكريمة، وحقيقية أيضًا، إيمان يصدقه العمل ويسنده، ليس طريقًا جديدًا وإنما طريق مغاير تمامًا لما هو مفروض علينا أمس واليوم وغدًا.
ما تمثله الانتخابات الرئاسية المصرية، ومن قلب كل الأطراف المشاركة فيها، حكمًا أو معارضة، هي أنها تلخص قضية التبعية، تبعية المبدأ والفكر والقرار، الجميع ينتظر ضوءًا ما من واشنطن، سواء بمد خدمة الرئيس الحالي، أو دفعًا بوجه جديد إلى قصر الاتحادية، لتحديد فرس الرهان المناسب لهم، لا مرشح ولا برنامج أو حتى خطاب يحمل توجهًا جديدًا يحتمل التأويل أو الظن بأن ثمة تغير قد يحدث، والأمل الباقي هو إيمان بأن المعدن الأصيل قد ينفجر في وجوه الجميع عند الساعة الحادية عشرة بالضبط، تمامًا كما خرج ناصر قبل 71 عامًا في مناخ من اليأس الكامل والتام، استفاقة قبل أن يطبق ظلام الليل على الجميع ويبتلعهم في صمت يليق بالأموات.
المشهد كما يبدو في هذه اللحظة أن لجنة قضائية، غير محايدة، هي الهيئة الوطنية للانتخابات، تشرف على عملية مخاض صعبة، بشروط تظهر تعسفية تبعًا لهوى النظام الحاكم، حيث تفرض الانتخابات الرئاسية على المرشح الحصول على توقيع 20 من أعضاء مجلس النواب، والغالبية الساحقة من أعضائه يتبعون النظام، أو تحرير 25 ألف توكيل من 15 محافظة مختلفة، بحد أدنى ألف توكيل من المحافظة الواحدة، وهو ما يفترض أن للمرشح جهاز دعاية قادر وكوادر حملة بالغي الكفاءة والخبرة، فضلًا عن ما يحدث على الأرض من تجاوزات ضد مرشح يهاجم الرئيس مباشرة ومضايقات أمنية ضد أفراد حملته.
وستغلق الهيئة العليا للانتخابات باب الترشح يوم 9 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وفي تلك المدة القصيرة نسبيًا من المفترض أن يتحدد بشكل رسمي شكل السباق الرئاسي في مصر لستة أعوام مقبلة، وسبق أن أعلنت الهيئة في مؤتمر صحفي إجراء الانتخابات داخل مصر خلال أيام 10 و11 و12 كانون الأول/ ديسمبر المقبل، على أن تجري عمليات الإعادة، إن حدثت، أيام 8 و9 و10 كانون الثاني/ يناير المقبل، وستعلن النتائج النهائية 18يوم كانو الأول المقبل، وإذا جرت جولة إعادة، سيكون إعلان النتيجة النهائية في موعد أقصاه 16 كانون الثاني.
ما تم إعلانه هو أن 7 شخصيات قررت أن تخوض السباق، الرئيس الحالي، والمعارض أحمد طنطاوي عضو مجلس النواب السابق، وعبدالسند يمامة وفؤاد بدراوي من حزب الوفد، وجميلة إسماعيل رئيس حزب الدستور، وفريد زهران رئيس الحزب الاجتماعي الديمقراطي، وحازم عمر رئيس حزب الشعب، إضافة إلى تلميحات بوجود شخصية عسكرية قد يُدفع بها إلى السباق، وهو محمود حجازي رئيس أركان الجيش السابق.
..
الوضع الاقتصادي في مصر هو أزمة اللحظة الحقيقية، خلال العام الماضي، وطبقًا لما يفسره النظام الحالي بإنه تبعات أزمة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا، يواجه الشارع المصري أيامًا عصيبة شديدة الثقل وغارقة في البؤس، وفي تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء –حكومي- فإن 70% من الأسر المصرية قد غيرت أنماط استهلاك الطعام والشراب تبعًا لتأثرهم بأزمة التضخم العنيفة التي تضرب أسعار كل شيء، وطبقًا للبيانات الرسمية الصادرة من البنك المركزي المصري، وهي في أقل الأحوال تجميلية تحاول ستر المأساة القائمة، أن نسب التضخم خلال العام الحالي لم تقل في أي شهر عن 35- 40%، وهي أعلى النسب المسجلة في البلد على الإطلاق، منذ عرفت الإحصاءات والبيانات.
وخلال تقريره عن شهر آب/ أغسطس الماضي، أعلن البنك المركزي أن نسبة التضخم الأساسي، الذي يستثني سلعاً أسعارها متقلبة مثل الغذاء والوقود، تراجع قليلا إلى 40.4% من 40.7% في تموز و41% في حزيران، وأضاف البيان أن أسعار الطعام والمشروبات ارتفعت على أساس سنوي، بنسبة 71.9%، مع زيادة أسعار اللحوم والدواجن 97%، والخضروات 98.4% والأسماك والمأكولات البحرية 86% كما ارتفعت أسعار الدخان 57.6%، وهي كلها نسب لا تعكس طبيعة أو عمق ما يجري في الواقع وعلى الأرض، وخلال الشهور الثلاثة الماضية فقط طفت أزمات انقطاع الكهرباء وشح السجائر وانفلات أسعار البصل والطماطم، مع الغياب شبه الكامل لأسعار اللحوم والدواجن، التي أصبحت شأنًا خاصًا، لا يهم الطبقتين الوسطى أو الفقيرة من الأصل.
واختصارًا لواقع الحال ومدى تفاقم الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر، فإنها من البداية إلى النهاية أزمة ثقة، وإذا ما فقدت دولة ما ثقة شعبها والعالم فإنها تمضي إلى السقوط، مهما تأخر أو مهما حاولت، خلال الشهور الثلاثة الماضية قررت وكالات التصنيف العالمية الكبرى، على الترتيب "موديز"، "فيتش"، "ستاندرد آند بورز"، خفض تصنيف ديون مصر، بما يعني شكوكًا متزايدة في إمكانية سداد الدولة لالتزاماتها الخارجية، مع الانهيار المروع لكل مؤشرات الكفاءة والقدرة، وبما يضاعف مصاعب الحصول على قروض جديدة.
اليوم، بلغ رصيد الديون المصرية الداخلية 8312 مليار جنيه، ارتفاعًا من 1816 مليارًا في 2014، وشهد الدين الخارجي ارتفاعًا قياسيًا هو الآخر ليصل إلى 165.361 مليار دولار حاليًا، علما بأنه كان قد بلغ نحو 46,1 مليار دولار في الفترة ذاتها، وترتب على هذا السفه الواضح في الاقتراض سلسلة متتالية من الأزمات، وصلت إلى ذروتها مع موازنة الدولة للعام المالي الحالي 2023/2024، حيث رصدت لسداد فوائد الديون 1120 مليار جنيه، بالإضافة إلى 1315.9 مليارًا لسداد أقساطها المستحقة، ولتبيان مدى فداحة الرقم، فإن 2124.1 مليار جنيه تمثل 113.7% من إجمالي إيرادات مصر بالموازنة، أي أن القروض الجديدة ستذهب بالأصل لسداد مدفوعات وفوائد القروض القديمة، وبشكل عام فإن 81.4% من كل المصروفات في الموازنة تذهب للدائنين، فيما يتبقى الخمس لكل بنود المصروفات، الرواتب، الإعانات الاجتماعية، الدعم، التعليم، الصحة، البحث العلمي.
الموازنة كما يقال دائمًا هي ورقة اختبار عباد الشمس الحاسمة لأولويات أي نظام حاكم في أي دولة على وجه الأرض، الكاشف الحقيقي للسياسات والإنحيازات والتوجهات الحقيقية لأصحاب القرار، والموازنة المصرية لا تكشف واقعًا جديدًا ولا مفاجئًا، هي فقط تشعل أضواء الإنذار الأحمر، قبل لحظات من نهاية الطريق.
الأرقام المصرية تواصل رواية الحكاية بطريقتها، غير القابلة للدحض أو التشكيك، الجنيه المصري منذ آذار/ مارس 2022 قد فقد رسميًا أكثر من نصف قيمته أمام الدولار، من 15.5 جنيه للدولار إلى نحو 31 جنيه حاليًا، ويصل في سوق الصرف الموازية لأكثر من 40 جنيه للدولار، وتقارير البنك الدولي عن آفاق الاقتصاد كشفت عن وصول عدد المواطنين الفقراء أو شديدي الحاجة إلى 60% من المصريين، الأرقام الرسمية تواصل الدوران حول نسبة 35%، لكنهما يجمعان على وصول نسبة الفقر المدقع في البلد إلى حدود 6.2%، وهؤلاء بحسب التعريف الأكاديمي المحفوظ من يعجزون عن توفير وجبة غذائية كاملة وحيدة في اليوم، بكلمات أبسط وأكثر ترويعًا: من يعز عليهم توفير متطلبات الحياة الإنسانية، في حدها الأدنى تمامًا، وفي الوقت ذاته، فإن القاهرة تحتضن أكبر عدد من المليارديرات في قارة أفريقيا، وهناك 100 ألف "سوبر مواطن"، بنسبة أقل من 0.001%، تتجاوز ثرواتهم المليون دولار في مصر، بأكثر أشكال التعبير القاطع الفاضح عن الفساد المؤسسي الذي يحكم ويتحكم ويقرر، في "شبه الدولة" كما قال رئيسها بلسانه، لا معارضيه.
وأمام مصر جدول سداد مرهق جدًا ومزدحم للغاية، في النصف الثاني من العام الجاري 2023، يُستحق دفع 11.327 مليار دولار أميركي (أقساط ديون+ فوائد)، وذلك وفقاً لتقرير الوضع الخارجي للاقتصاد المصري الصادر عن البنك المركزي المصري، وخلال 2024 سيستحق نحو 28.049 مليار دولار أخرى، وحتى العام 2028 ــ من المفترض أن ــ تسدد مصر للديون الخارجية 83.8 مليار دولار أميركي، مع الأخذ في الاعتبار أن الموازنة تعاني بالأصل من اختلالات هيكلية وعجز دائم ومزمن، وهذا الوضع الملغز لم ترتق إليه أي من خطابات المرشحين!.
من المستحيل تصور أن دولة بهذا المستوى الوضيع من الفكر وهذه الإدارة الرثة تستطيع الاستمرار عام واحد إضافي، حتى ما كان يعول عليه النظام من دعم خليجي، فقد ظهر له نهاية، كما قالت تقارير منسوبة لمصادر سعودية، عرفت طريقها للنشر مؤخرًا، بأن "عصر الشيكات على بياض للقاهرة قد انتهى"، وهو بالفعل حقق ما يطمح له بكسر إحدى دول المركز العربية، لصالح مشروع التحالف الجديد بين قصور الخليج وتل أبيب، بعد أن ساهمت بأموالها سابقًا في تمكين النظام الحالي.
لكن يبدو أيضًا من المستحيل تخيل سيناريو بديل، يستطيع فيه أحد الطامحين للترشح تغيير البوصلة والطريق بهذه البساطة، الأمر أشبه برهان على حمار أعرج في سباق خيول، سباق سرعة قبل أن يدهسنا الوقت وتلتهمنا واحدة من أفظع النهايات المعروفة لمجتمعات عجزت أن تقف في وجه ظروفها وأعدائها.
مصر اليوم في حاجة إلى بطل أسطوري أو معجزة، ورغم بعد الاحتمال إلا أنه قد يحدث، مثلما خرج بطل في العشرين ربيعًا "محمد صلاح" ليقلب 50 عامًا من التطبيع والخطط والمؤامرات والاتفاقيات على رأس الكيان الصهيوني ومن والاه في القاهرة، وكما خرج سعد إدريس حلاوة وسليمان خاطر، وغيرهم، من الممكن أن يخرج من قلب سياق اليأس هذا شخصيات تؤمن ببلدها وقضيتها، تعيد فقط تصويب البوصلة بالنسبة للدولة، لأن الشعب على الأقل لم يسقط كما سقط وخان وهان القادة وأصحاب القرار النافذ في القاهرة.
النهاية وضعت قبل عقود طويلة بمداد العبقري الشهيد الدكتور جمال حمدان، حين أدرك ــ قبل الجميع ــ الثمن الفادح لتفريط مصر في قضيتها المركزية وتخليها عن انتمائها الطبيعي وتوقيعها على معاهدة الاستسلام "كامب دافيد" مع عدوها الصهيوني، حيث كتب: "فلسطين هي قضية مصر المركزية وهي التي ستحدد مصير مصر في النهاية، وهذا ما أدركه عبدالناصر جيدًا، ومصير مصر محدد بمصير فلسطين، ولا يمكن أن يشك أي شخص عاقل أن مصر منذ معاهدة كامب دافيد لم تعد دولة مستقلة ذات سيادة، وإنما حوّلها السادات بتوقيعه لتلك المعاهدة إلى محمية أميركية تحت الوصاية الصهيونية أو محمية صهيونية تحت الوصاية الأميركية"، وزاد: أن "كامب دافيد هى بداية لعبة أو لعنة الدومينو بين العرب"، وقد صدقت قراءته الذكية والاستباقية لمسار الأحداث في مصر، وفي المنطقة العربية كلها، وصدق أيضًا تعبيره البليغ أن "خيارات مصر لم تعد بين السيئ والأسوأ"، بالفعل صارت خيارات كلها مرّة، لا تحمل إلا العظة والاعتبار بمن يصدق وعد الرخاء الأميركي أو بشائر السلام مع الكيان، سمٌ ناقع بطيء المفعول، لكنه النتيجة الوحيدة المحتمة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024