آراء وتحليلات
تغيرات حادة في قواعد اللعبة الدولية
إيهاب شوقي
في عالم قامت قواعد لعبته بعد الحرب العالمية الثانية على توازنات القوة الجديدة، وزحزحة خرائط النفوذ وتبادل الأدوار وفقًا للتفاعلات التي أعقبت الحرب، ظلت قواعد اللعبة وأماكن النفوذ التقليدية سارية بشكل ثابت إلى حد كبير، من حيث الدول صاحبة الفيتو في مجلس الأمن وهي الدول المنتصرة في الحرب، وكذلك تحالفات الحرب الباردة وأماكن النفوذ التقليدية للمستعمرات السابقة كما هو الحال في إفريقيا.
ولعل معظم التعديلات القليلة التي طرأت على هذه القواعد، جاءت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك كتلته الرئيسية وتحالفاته البعيدة، مثل دول اوروبا الشرقية التي ذهبت للمعسكر الغربي وانضم الكثير منها لحلف الناتو، وكذلك المنطقة العربية التي كانت أغلبيتها الكاسحة باستثناء دول الخليج متحالفة مع الاتحاد السوفييتي.
وبالتالي اكتسبت أمريكا وحلفاؤها مواطئ قدم في شرق أوروبا وفي الشرق الأوسط باستثناء محور المقاومة.
وفي افريقيا وبعد تراجع وانحسار حركات التحرر الوطني، باتت معظم الدول أسيرة مستعمراتها القديمة وخاصة فرنسا وهو شكل لا يقتصر على التبعية السياسية بل يمتد الى التبعية الاقتصادية والتسليح وحماية عروش الكثير من الجنرالات الأفارقة.
وحاليًا تبدو رقعة الشطرنج الدولية وكأنها تتغير تغيرات حادة في العديد من مناطق النفوذ، وتبدو حالة التوازن العالمية تتجه إلى التصعيد ونذر حرب خشنة قد تغير نظامًا استقر عليه العالم منذ الحرب العالمية الثانية بسبب عودة التوازن الدولي اقتصاديًا وعسكريًا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك تغيرات في التوازنات الأقليمية التي تؤثر تأثيرات عميقة على التوازن الدولي وخاصة في منطقتنا.
ومن هذه التغيرات يمكن رصد ما يلي:
أولًا: زيادة الاحتكاكات الدولية الخطيرة واقترابها من انزلاقات وأخطاء قاتلة قد تشعل الحرب. وهنا نحن بصدد إما اشتعال حرب عالمية، أو تسويات تاريخية تحترم النفوذ الجديد المتسق مع حقائق القوة المستجدة، ويمكن رصد أهمها:
- بحسب وزارة الدفاع الروسية، فقد تم إطلاق المقاتلة MiG-31 في الجو لمرافقة طائرة الدورية النرويجية P-8A Poseidon، التي كانت تحلق فوق بحر بارنتس. وفي الأشهر الأخيرة، زاد نشاط الناتو في المياه الساحلية والمجال الجوي بالقرب من حدود روسيا، خاصة في منطقة بحر بارنتس. وأكد ممثلو وزارة الدفاع أن تصرفات القوات المسلحة الروسية كانت منسقة بالكامل وتقع في إطار الأعراف والاتفاقيات الدولية.
وعلقت مصادر روسية على الحادث، بأن الغرض الحقيقي من تحليق طائرة الدورية النرويجية P-8A "بوسيدون" لا يزال مجهولا، في حين أنه من الممكن أن نتحدث عن استفزاز مستهدف، خاصة وأن الوضع بالقرب من الحدود الروسية تفاقم في الآونة الأخيرة بشكل خطير.
- في بولندا، هناك توقعات بالاستيلاء على الجزء الغربي من أوكرانيا، وعلى خلفية الوضع السياسي الحالي في المنطقة، أشار كونراد رينكاس، كاتب العمود في Myśl Polska، إلى أن كيانًا إقليميًا جديدًا، أوكروبوليا (بمعنى الحصن أو المنطقة العازلة المحمية) سيظهر بدلاً من بولندا وأوكرانيا اليوم.
وتحدثت تقارير صحفية روسية أنه من المحتمل أن يتم توسيع أراضي أوكرانيا التي ستقع تحت سيطرة بولندا، وأن هذه المنطقة قد تصبح نوعًا من المنطقة العازلة بين روسيا وبولندا، خاصة في ظل عدم جدوى الأعمال العدائية من جانب أوكرانيا.
- بدأت السلطات الفنلندية عملية إعداد واسعة النطاق لملاجئ المدنيين. ويقال إن ذلك تم رداً على "التهديدات العسكرية الروسية وغيرها". وبحسب التقرير الرسمي لوزارة الداخلية الفنلندية، فإن عدد الملاجئ يصل لنحو 50 ألف، وهو يمكن نظريا أن يستوعب ما يصل إلى 4,8 مليون شخص.
وبحسب التقرير فإن أكثر من 90% من الملاجئ قادرة على توفير حماية موثوقة ضد القصف ونيران الأسلحة الصغيرة. كما توفر 83% منها حماية ضد العوامل الكيميائية والبكتريولوجية والإشعاعية.
ولم توضح فنلندا بالضبط ما هي التهديدات القادمة من روسيا، إلا أن روسيا قد نقلت أسطولها من القاذفات إلى قاعدة أولينيا في شبه جزيرة كولا.
وقالت صحيفة إيلتا سانومات الفنلندية، نقلاً عن صور الأقمار الصناعية، أن روسيا نقلت أسطولها من القاذفات إلى قاعدة أولينيا الجوية في شبه جزيرة كولا. وبحسب المعلومات فإن هذا القرار اتخذ بهدف حماية الطائرات من الطائرات من دون طيار الأوكرانية.
وأصبحت أولينيا، التي تقع على بعد 150 كم فقط من فنلندا، إحدى القواعد الجوية الرئيسية في روسيا. وتظهر صور الأقمار الصناعية التي نشرتها الصحيفة الفنلندية عددا كبيرا من طائرات تو-95 وتوبوليف 160، التي تعتبر "العمود الفقري" للقوات الجوية الفضائية الاستراتيجية الروسية، كما أن نشر قاذفات استراتيجية إضافية هنا يخيف فنلندا نفسها، خاصة بعد انضمام الأخيرة إلى حلف شمال الأطلسي.
- انتهكت قوات الناتو من لاتفيا حدود بيلاروسيا في 30 أغسطس عند نقطة تفتيش غريجوروفشتشينا، كما أفادت لجنة الحدود الحكومية في بيلاروسيا. كان هناك جنديان، ويُزعم أنهما دخلا أراضي بيلاروسيا على بعد مترين ثم ركضا عائدين بسرعة. وتم تسجيل الحادثة على كاميرا CCTV.
ووقع الحادث عندما حاولت مجموعة من العسكريين تجاوز شاحنة توقفت على حدود الدولتين. ويبدو أن هذه التصرفات لم تكن مقصودة، ولكن الوضع مثير للقلق بالتأكيد.
ثانيًا: تغير التوازنات الإقليمية، وعدم صلاحية القواعد القديمة للعمل مثل الاحتماء بالقوى الكبرى والاستقواء بها على الداخل، وكذلك التزلف والتقارب مع العدو الاسرائيلي لنيل حماية دولية، ويمكن رصد ذلك في عدة ملفات كما يلي:
- الوضع في ليبيا، حيث حاول الدبيبة استعادة الحماية الدولية عبر كبش فداء يتمثل في وزيرة الخارجية ولقائها مع وزير الخارجية الصهيوني، إلا أن الخطوة لم تؤتِ أكلها ونتائجها المرجوة بعد حالة الغضب الجماهيري، وهو ما أجبره على التراجع والتضحية بوزيرة خارجيته التي هربت إلى تركيا.
- انقلابات افريقيا العسكرية والتي شكلت تمردًا على النفوذ الفرنسي والغربي عموما وصمود هذه الانقلابات دون خوف من تدخل دولي، وهو ما يعني فطنتها لتراجع النفوذ والقوة الغربية وأن ثمن التدخل سيكون باهظا على هذه القوى.
- فقدان الثقة في الحماية الامريكية والغربية للرؤساء والملوك والجنرالات، وهو ما سينتج عنه مزيد من محاولات موازنات الأمور والتقارب مع القوى الأخرى وعدم الارتماء الكامل في الفلك الأمريكي.
ولعل الانقلاب الأخير في الغابون جاء كاشفا، وحالة الرئيس علي عمر بونغو تشكل فزعا لكل مراهن على الغرب أو الاستقواء به، حيث تقدر أصول عائلة بونغو بمئات الملايين من الدولارات في شكل حسابات مصرفية سرية في موناكو وأماكن أخرى، تمتلك الأسرة ما يقدر بنحو 39 شقة ومبنى فخماً في فرنسا.
وكان عمر بونغو الذي حكم البلاد منذ عام 1967 إلى 2009 أي لمدة 43 عاماً حليفاً وثيقاً لفرنسا التي قدمته كنموذج ناجح لقادة إفريقيا، رغم معاناة البلاد من الفساد وتحديث شكلي وفروق طبقية ومجتمع استهلاكي. وأنجب عمر بونغو 53 طفلاً، لكنه أعطى أكبر نفوذ لوريثين رئيسيين، هما ابنته باسكالين بونغو المولعة بالطائرات، ابنه والرئيس الحالي، علي بونغو المحب للسيارات الفاخرة.
وعندما توفي عمر بونغو كان لا يزال ثلث سكان الغابون يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، وبينما بدأت حقول النفط في الجفاف، يواجه رعايا بونغو حقيقة أنه ضحى بمستقبل البلاد لتمويل أسلوب حياته المترف بشكل خيالي.
ولم تستطع فرنسا ولا الغرب حماية الرئيس الحالي من الانقلاب، وهي عظة لكل مراهن على فرنسا أو الغرب في منطقتنا. هذه التغيرات لا تعد شكلية ولكنها تغيرات عميقة في قواعد اللعبة الدولية لها ما بعدها في المستقبل القريب.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024