نقاط على الحروف
فتّاح.. الحلول الصحيحة
أحمد فؤاد
ليس من قبيل التجاوز ولا التشاؤم وصف حال العالم العربي اليوم بأنه أقرب إلى ركاب طائرة مخطوفة، يطيرون في رحلة إجبارية لا يدرون شيئاً عن وجهتها ولا طريقها، لا يملكون من أمر مصيرهم ولا طريقهم حتى فرصة السؤال، يحلقون في سماء من شك خالص، ومع ثقل الضغط على رؤوسهم فإنهم عاجزون عن التفكير، وكل فكرة للحركة لا تجلب سوى الصداع العميق، ثقتهم محصورة في أنهم ذاهبون إلى هلاك محقق، ينفجرون شظايا في هذا الفضاء العريض، أو يدهسون ضحايا عند أول تهديد للخاطفين.
المراكز الحضارية العربية الكبرى، والتي تتحمل تاريخيًا وتقليديًا إرثًا من المسؤولية عن الأمة كلها، فوق مسؤولياتها عن شعوبها وأهلها، لم تفلح إلا في لعب دور الضحية المستسلمة لجلاديها، وهم في هذا متساوون، الحاكم والمحكوم، فلا الرئاسات الرسمية تملك تصورًا ولا خيالًا ولا جرأة للخروج من أسر التبعية لواشنطن، ولا المحكوم قد غاب عن عقله وقلبه مصير السودان الأسود بعد ما عرف بثورات ربيع الخراب العربي، والكل ينتظر الموت واقفًا في مكانه، ويفترض مقدمًا أن الحركة معناها الوحيد –والمحتم كذلك- استعجال النهاية، مع انتظار النخب المتغربنة التي استثمرت فيها أميركا طوال عقود، فرصة أي حراك شعبي للقفز عليه وتوجيهه بما يضمن المزيد من السقوط والمزيد من الخراب والتدمير.
ولأن العدالة الإلهية أبت إلا أن تقيم الحجة أبدًا، وفي كل وقت، فإن النماذج التي قدمت وتقدم لنا طريقة الخروج من مأزقنا المأساوي الحالي لا تقف عند حدود الماضي البهي القريب ولا التاريخ الأسطوري البعيد، بل تُخرج لنا أروع النماذج والأمثلة من قلب هذا الواقع ذاته، وبكل أثقاله وبؤس إمكانياته وضعفها، محمد صلاح الزهرة المصرية المتفتحة بالكاد، خرج من قلب حصار خانق ومناخ يأس كامل، ليصفع الكيان ودولته المطبعة، ويكسر معادلات المنطقة التي ترسخت منذ عقود طويلة، ويجبر في شموخ ورفعة وقدرة تليق بأمثاله من الشهداء الجميع على وقفة ضرورية لإعادة الحساب والتفكير، وقبل كل شيء، للتحية.
العمل المتفرد العظيم لمحمد صلاح استطاع أن يهز أركان نظرية الأمن الصهيوني ويسحق ثوابتها، تمكن من تغيير المألوف والواقع، وأن يجعل الشك عنوانًا موجعًا وعريضًا لقادة الكيان وحكومته وصناع قراره، وصنع الأمل لغيره بأن العناد قادر على قهر جبال المستحيل وتحطيمها، مع ذلك، ودون السقوط في فخ المبالغة، فإنه يبقى عملًا فرديًا، يصلح للاستلهام لكنه ليس الأمل المطلوب في حال أمة منكسرة، وكما وصفها سماحة قائد الثورة، الإمام القائد إن "العمل الفردي في الإصلاح يؤدي إلى استقامة فرد أو فردين، والعمل الجماعي يؤدي إلى إصلاح مجتمع بملايين أفراده وإلى إصلاح أجيال متوالية".
طهران، بدفع من قيم الثورة الإسلامية، وما تقدمه فعلًا وعلى الأرض لغيرها، طرحت الحل الجماعي بعد أيام من عملية الشهيد محمد صلاح، عند إعلانها عن الصاروخ الجديد "فتّاح" درة تاج صناعاتها العسكرية المتطورة، لتلقي لنا بحبل الفكرة، وتزيد من أزمات كيان العدو وتثير رعبه وترفع من أسهم القلق لدى الشارع هناك.
ليس اللافت والجيد ما هو تطور عسكري أو تكنولوجي، وفقط، نعم الصاروخ الجديد هو أول صاروخ فرط صوتي من صناعة محلية بالكامل، يصل إلى 13 ماخ، ويتمتع بقدرات خارقة من حيث التعامل مع الدفاعات الجوية، ونعم لا تملك الترسانات العسكرية الغربية كلها، فضلًا عن الكيان، ما يضاهيه أو يمكنه مواجهته، والإعلان جاء بحضور رئيس الجمهورية الإسلامية وقائد قوات الحرس الثوري، لكن ما هو ضروري قوله هنا هو إن طرفًا محليًا محاصرًا منذ 44 عامًا، استطاع أن يملك الكفاءة والإرادة التي سمحت له ليس بالقدرة على المواجهة لكن بالتفوق والسبق.
العمل الجماعي وتوحيد إمكانيات الدولة وحشدها وتنظيم الجهود والعقول، وفوقه استمرار وتيرة التحديث والتطوير في كل المجالات، والانتقال من مرحلة إلى أخرى بالحماسة ذاتها، وما تضطلع به طهران من دور كبير ضمن محور المقاومة وأعبائه، يجعل من الحديث عن مشروع "فتّاح" كله أقرب لحديث عن حكاية أسطورية لا تعرف اليأس وترفض أنصاف الحلول، وتعيد تعريف الصراع بأنه سباق على كل المستويات.
الحديث عن الصاروخ الجديد عسكريًا يخصم من القصة الإيرانية المذهلة أصلها الراسخ، ويعيد تقديمها إلينا بعيون الغرب لا بعيوننا، وهو حديث يستكمل مسيرة الفعل العربي الأشهر والأقدم البكاء والعويل، واجترار الأمجاد القديمة والتلهي بها عن مواجهة التحديات والأوضاع الحالية، هو حديث ينشر البؤس والإحباط، ولا يرى في منجز هائل يعز على أوروبا وأميركا فرصة للوقوف والتعلم والاستفادة من تجربة تشبهنا، وتعاني مثل ما نعانيه، وهي تمامًا محاصرة مثلنا ومستهدفة، تنتمي إلى عالمنا بقدر ما نعرفها ونرتبط بها.
..
خلال أسبوع واحد قُدمت إلينا هديتان نادرتان، تتعلقان بأجوبة صراعنا الوجودي من الأميركي والصهيوني، وتثبت لنا أن المقاومة ليست عملًا جليلًا، وإنما هي أكثر من ذلك إيمان وثقة خالصة بالله العزيز الجبار، من جديد نستطيع أن نرفع رؤوسنا وأن نحلم بمستقبل يخاصم أميركا وينبذها، مستقبل لا يتحكم فيه الأميركي برغيف الخبز أو شربة الماء، وهو مرهون، الآن وهنا، بالإرادة والوعي السليم.
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
12/11/2024
جونسون بعد شيا: وكر الشرّ لا يهدأ
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024