آراء وتحليلات
محمد صلاح.. وحدة المصير
أحمد فؤاد
إن الضرورات الملحة لمصالح الأمم والشعوب لا تخلقها مصادفات طارئة، ولا تصنعها صدامات مفاجئة، لكن المصادفة والصدام قد تكون مناسبات للتذكير بهذه المصالح والتأكيد عليها، وأحيانًا إعادة اكتشافها وتعريفها وتقديمها، للنفس والغير، هذا تقريبًا ما حدث مع وبعد عملية البطل المصري الشهيد محمد صلاح، طريق محمد الباقي فينا، وصلاحنا الذي رجوناه طويلًا، البطل الذي حطم في قدرة مذهلة كل ما افترضه –أو تمناه- كيان العدو.
الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، قبل أيام قليلة فقط، وفي ذكرى انتصار آيار العظيم على العدو، قال إن الصهيوني والأميركي يقاربان معاركهما بطريقة خاطئة، وأن أي حرب مقبلة لن تكون حربًا مع جبهة واحدة، ولن تكون الصواريخ فيها هي التحدي والرعب الموجه إلى قلب الكيان، ولن يعود الزمن للوراء حيث كان يستطيع الكيان أن ينفرد بجبهة أو طرف، فيما ينتظر الباقي دوره في الطابور الصامت.
قال سماحة السيد نصًا: "أي حرب كبرى ستشمل كل الحدود، وستضيق مساحاتها وميادينها بمئات آلاف المقاتلين"، هل كان السيد يقرأ من كتاب المستقبل المفتوح؟ أم كان يعرف جيدًا أن الشعوب العربية قد استردت بوصلتها السليمة، وحان الوقت لتدق طبول حرب كبرى جديدة لن يتمكن الصهيوني ولا من تبعه بغير إحسان من أنظمة، من فرض الصمت وتقييد حركة جيل جديد من الشباب العربي، يعي قضيته ويعرف عدوه، وهو بالتالي قد كسر حواجز الخوف والتردد كلها، ومقدمًا؟
هذا ما تقوله ببساطة عملية بطولية مذهلة، قام بها فردٌ واحد، شاب يكاد يبلغ 22 ربيعًا، بسلاح متهالك من مرحلة بعد الحرب العالمية الثانية، ومصحفًا، كان رفيقاه في رحلة الثأر لأحد زملائه ممن قتلوا غدرًا على الحدود، عبر فيها البطل الحدود المصطنعة بيسر وسلاسة، وتقدم 5 كيلومترات داخل أرض فلسطين المحتلة، وظفر بقتيلين، ثم انتظر قوة الدعم، ليعيد الكرة ويقتل منهم ويصيب، ويستمر في الاشتباك معها حتى نفاد ذخيرته، وارتقائه بالطريقة الأكمل التي تليق بعظيم مثله، ويقدم لمجتمعه وأمته صفحة جديدة من أمجد صفحاتها وأكثرها نبلًا وإخلاصًا.
ما قاله صلاح، باستشهاده، أن الإنسان العربي والمصري، يستطيع أن يجترح المعجزات، مهما غابت الإمكانيات أو أغلقت أمامها الأنظمة السبل، ما أخبرنا به صلاح من سماء الأرواح النبيلة المحلقة في عليين، وما يشي به رد الفعل المصري المبهج على عمليته البطولية، إن معاهدة الذل كامب دافيد، وما بعدها من سلام دافئ ومن علاقات وارتباطات أمنية واقتصادية وسياسية بين أي نظام عربي والكيان سيدهس في أية لحظة، وأن الشعوب عند القاعدة وفي قلبها لا تنسى ولا تسامح، وهي فقط تنتظر فرصة.
في هذه اللحظة المضيئة بدم الشهيد، تصرف نظام كامب دافيد بالطريقة الوحيدة التي يفهمها ويجيدها، وهي الوقوف بالكامل في خندق الكيان، عبر التضييق على أهل الشهيد والقبض عليهم، وإجبارهم على إتمام إجراءات الدفن في صمت كامل ودون حضور أي شخص، سوى عمه وأخيه، ومشاركة الكيان في التحقيقات حول انتماء الشهيد، وهو موقف منطقي وطبيعي بالنسبة لخيارات النظام الحاكم وأولوياته وأهداف مشغليه ورعاته وسادته في واشنطن و"تل أبيب".
ما يجري ليس عملية تبرؤ، وفقط، من الفعل النبيل لمحمد صلاح، لكنه تصرف يوجه عدة رسائل لغيره من المجندين والناس، أن المساس بأمن الكيان له ثمن فادح أولًا، وأن هذا الثمن سيدفعه الأهل والأقارب والأصدقاء، ثم أن النظام يحاول جهده أن يوقف أي مظهر احتفاء بالبطل، وصورته واسمه لم يخرجا علينا سوى من الإعلام الصهيوني، ومن المنتظر أن يرتب النظام الحاكم لأحداث أخرى تشتت الانتباه وتحرف الأنظار والقلوب بعيدًا عن تمجيد العملية وبطلها.
ما يخشاه النظام، ومن ورائه الكيان، أن تتحول عملية واحدة إلى ما يطلق عليه "أثر الفراشة" في المجتمع المصري، وأثر الفراشة أو نظرية الفوضى، هو تفسير قدرة حدث بسيط على إحداث موجة متتالية وطويلة من التغيرات في مجال عمل واسع، بالتأثير على عدد من الأحداث الأكبر جحمًا والأبعد مدى، والوصول إلى نتائج ضخمة من حدث أولي قد لا يكون حظي بأي اهتمام، والاسم المجازي لتلك النظرية هو "أثر الفراشة" هو تعبير عن المثل التوضيحي لها في الكتابات المبكرة، ووصف الفلاسفة لها هو أن رفرفة جناح فراشة في الصين قد تنتج عنه رياح وفيضانات وأعاصير في أميركا وأوروبا وأفريقيا.
قد تكون، ويجب أن تكون، عملية محمد صلاح هي الفراشة التي تعيد الارتباط والتعريف بقضيتنا الأولى والمركزية، والسلاح الذي يشير إلى البوصلة الصحيحة الوحيدة لمصر وأمتها العربية، الدليل الأنصع على قدرة هذا المجتمع مهما تقطعت به السبل على إنجاب الأبطال، الذين يعرفون الحق ويعرف بهم الحق، القادرين على منحنا المجد والكرامة والشرف، وعلى كسر سنوات التراجع والاستسلام الطويلة، المريرة.
..
عنوان وحدة الجبهات ووحدة المعركة والراية كان قلب خطاب سماحة السيد، وهو الشرط الضروري لنطوي صفحة مظلمة من التاريخ العربي، ويفتح آفاقًا جديدة تمامًا لتصور المعركة القادمة، وهي قادمة حتمًا، لن تكون فيها النار بعيدة عن جبهات طالما ظنها العدو آمنة مستكينة، وهي حرب تحرير كبرى، ستنبت من أتونها المشتعل أبطالها وجنودها ولن يستطيع الصهيوني فيها أن يفترض حتى الانتصار أو إسكات شلال النار والدماء المتجهة نحو قلبه.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024