آراء وتحليلات
عصر احتكار التهديدات انتهى.. الحرب كبرى في ميزان الردع
أحمد فؤاد
بكلمات قليلة، كثيرة الدلالة والبلاغة والدقة، لخّص الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله العصر الجديد للصراع العربي - الصهيوني، بقوله إن "التحول الآخر الذي يعيشه الكيان الصهيوني الآن هو في مسألة الردع"، ليجعل من خطابه فاتحة وعنوان عهد جديد بالكامل، تنكسر فيه أوضاع وظروف كانت هي جوهر أمنيات البقاء والركن الشديد الذي يأوي إليه الكيان في مواجهاته معنا، كعرب.
الكيان الذي قام غريبًا في بيئة معادية بالكامل، تنبذه وترفضه، لم يكن يستثمر أوراق قوته والدعم الهائل المستمر القادم من الغرب في تفوقه وسلاحه وقوته، وفقط، بل كان الهدف الأول والأسبق أن يحول محيطه العربي إلى ظلام دامس، وأن يصدر للدول العربية المحيطة والبعيدة الأزمة تلو الأزمة، وأن يشعل الفتن ويزيدها ويعقدها، وهي طريقة كانت فعالة للغاية في تشتيت الجهد وإبعاد العيون والقلوب عن الأزمة المركزية للعالم العربي، وهي وجود الكيان في قلبه، كورم سرطاني خبيث، كلما طال بقائه كلما ارتفعت المخاطر وازدادت عملية إزالته صعوبة وبعدًا وتكلفة.
كانت هذه هي الفكرة الأساسية للعقلية التي تحكم الكيان منذ لحظة إنشاءه، فمساحة فلسطين التاريخية كاملة 27027 كيلومترًا مربعًا، وهي بالكاد 2 في الألف من مساحة الوطن العربي كله، كما أن عدد السكان بالداخل يزيد قليلًا عن 1% من أخوانهم العرب، ومع حقيقة أن العالم العربي بمساحته وسكانه وامتداده أكبر من أن يبتلعه الكيان وأثقل من أن يهضمه -ولو أراد- فإن معركتهم الحقيقية كانت دائمًا على هذا الامتداد الجغرافي الواسع، وسائلها العمل الخفي والحروب القذرة والمؤامرات، وإن لم تفلح كل هذه الأساليب، كان السلاح حاضرًا ينقل الصراع دمًا ونيرانًا في سماء المدن العربية وفوق الرؤوس.
كان الكيان يملك التفوق الكيفي على العالم العربي كله، ثم يستند إلى تحالف عالمي مع طرف قادر وقوة عظمى مهيمنة، جعلت منه مالكًا لزمام المبادأة في كل الظروف، فهو دائمًا يتمتع بميزة إتخاذ القرار دون أن يعبأ بتكلفة سياسية عالية، والغرب الذي يصطف ورائه عند أية أزمة أو معركة، كان يوفر الداعم الأعمى، ولم يمنح الكيان فرص الإفلات بجرائمه المروعة في حقّنا فحسب، لكنه وفر الغطاء اللازم للمذابح والحروب والتغول الدائم في شؤون المنطقة، بينما كانت علاقات التوازن بين القوى المتداخلة في المنطقة والقانون الدولي كلها عوامل تخصم من قدرات الحركة العربية وإمكانياتها وحدود ما تستطيع الإقدام عليه.
يضاف إلى ذلك أن الخلافات العربية-العربية ليست من نوع الخلافات بين أحزاب الكيان وساسته، يمكن للمظاهرات ضد نتنياهو وتعديلاته القضائية أن تستمر قرنًا، لكن لن تلجأ أطرافها على تحويل الخلاف بينهم إلى صراع وجودي، فصراعهم معنا فقط، أما على الضفة الأخرى فإن أي نظام حكم عربي لا يتردد في إشعال حرب أهلية لخدمة مصالحه أو تثبيت عرشه، أية أزمة عربية تتحول ببساطة وسرعة إلى فتنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ودلائل، أقل خلاف عربي بين حكام يتدحرج في لحظة إلى كراهية وإلى خطاب تحريض شامل، وإلى أنهار دماء تهرق، وخزائن مال تفتح على مصراعيها لتنفق وتبدد.
ومع عدم امتلاك العالم العربي، الرسمي على الأقل، لنظرية أمن قومي شاملة، تعرّف العدو وتجعل أولويتها لمصالح أمتها، ثم الاعتماد على أشباه جيوش حديثة النشأة فاقدة الكفاءة والعقيدة، همها الأكبر والأول هو ضمان أمن العروش لا الأوطان، ثم أن قادتها بطبيعتهم لا يثقون في أنفسهم ولا في غيرهم، وإن أجبرتهم الظروف على الإلتجاء إلى السلاح فإن أيديهم واهنة وأصابعهم على الزناد مرتعشة وإرادة القتال لديهم مهزوزة مترددة، وهكذا فإن نظرية الردع الصهيونية تكون قد تكاملت واكتسبت قوتها، بالوصف الذي قاله وزير حربهم الأسبق موشى ديان، إن الكيان يجب أن يكون حيوانًا شرسًا يخشى الجميع إغضابه أو إثارته، وهو في قوله مدفوع بثقة عمياء أنه حتى حين يحين وقت حرب فإنه يواجه جبهة ممزقة، مهزومة ذاتيًا.
سماحة الأمين العام، وفي ذكرى أمجد وأعظم أيام انتصاراتنا، أولها وأبهاها، في الخامس والعشرين من آيار 2000، قال بوضوح في خطاب يستشرف آفاق المستقبل، أكثر مما يتفاخر بالنصر والإنجاز الهائل، وهو يحتاج قراءة هادئة تفهم وتدرك ما الذي حققه محور المقاومة فعلًا على صعيد تغيير المعادلات في المنطقة، عقب كسر إستراتيجية الردع الصهيوني: "لستم أنتم من تهددون بالحرب الكبرى، وإنما نحن الذين نهددكم بها"، انقضى العصر الذي كان الكيان فيه يحتكر القرار والتهديد.
لم يصل محور المقاومة إلى هذه اللحظة فقط، لكنه عبرها إلى تحقيق وحدة السلاح والهدف والجبهات، يتمثل هذا في تأكيد سماحة السيد أن "حربًا كبرى ستشمل كل الحدود، وستضيق مساحاتها وميادينها بمئات آلاف المقاتلين".. هذه الكلمات وحدها كفيلة بأن يتوقف عندها الزمن طويلًا، وقفة أولًا لتحية أرواح من أوصلونا إليها، وجادوا بالدم والعرق والآلام، من قدموا حياتهم صدقة سر لله وقربانًا للحق والطريق، من رفضوا العصر الأميركي والصهيوني، من قالوا لا في وجه الشيطان، وكرهوه ولعنوه، وفجروه في وجه من صنعه ومن فرضه ومن قبل به.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024