آراء وتحليلات
تعيين الحدود البحرية الجنوبية: للبنان "الفيتو" الخاص به
علي عبادي
حمل تعيين الحدود البحرية بين لبنان وكيان العدو عبر "الوسيط" الأميركي قراءات مختلفة على الجانبين اللبناني والصهيوني، وظهر تباين كبير بين هذه القراءات. واعترض بعضهم لبنانياً على وصفه بالإنجاز، فيما المفارقة أن الاعتراضات على الجانب الصهيوني أكثر حدة. وفي الواقع، لا يمكن تقدير أهمية هذا الإنجاز إلا في ضوء السياق السياسي ـ الاقتصادي الذي أدى الى إنتاجه:
ــ الحصار الأميركي للبنان: من المعروف أن لبنان تعرّض خلال السنوات الماضية لحصار غير معلن من الإدارة الأميركية بهدف إخضاعه وإعادته الى حضن الوصاية الأميركية. وتم لهذه الغاية تجفيف الموارد المالية التي يمكن أن تدخل البلد إلا في حدود إبقائه على قيد التنفس الاصطناعي. ولهذا، لم تتمكن أي شركة شرقية أو غربية أن تستثمر في لبنان، وحتى شركة "توتال" النفطية الفرنسية التي وقع عليها الالتزام للتنقيب في البلوك البحري رقم 4 غادرت من دون إكمال مهمتها. وقد أجبرت الظروف الدولية المستجدة بعد اندلاع "حرب الطاقة" في أوكرانيا، الولايات المتحدة على تليين مقاربتها بهدف توفير منابع جديدة للطاقة لفائدة دول أوروبا وتسهيل حصول الكيان الصهيوني المؤقت على مكاسب إضافية في الحقول البحرية المكتشفة في شرقي المتوسط. وفي هذا الظرف تحديداً، وافقت الإدارة الاميركية على السماح للشركات الدولية بالاستثمار والتنقيب في لبنان ومياهه الاقتصادية. بهذا المعنى، تحققَ خرق للحصار الذي كان على شكل فيتو طارد للشركات، ليس فقط في البلوكات الجنوبية وإنما في البلوكات الأخرى على طول الشاطئ اللبناني. وينبغي أن نقرّ هنا بأنه لو استمر هذا الفيتو سنوات أخرى، لما أمكن للبنان في ظروفه السياسية الداخلية المانعة للتوجه نحو خيارات أخرى أن يستخرج ولو صفيحة واحدة من النفط بفعل الهيمنة الأميركية على مداخل ومخارج الشركات الدولية والاقتصاد الإقليمي.
ــ بناء على النقطة السابقة، يمكن اعتبار ما جرى بأنه تسوية لبنانية ــ أميركية بالدرجة الأولى، لأن مشكلة لبنان في السنوات الماضية كانت في القرار الأميركي بمنع لبنان من التنفس الطبيعي. والدليل، إضافة الى منع الشركات الأجنبية من التنقيب في مياه لبنان الاقتصادية، تأخير حصول لبنان على الكهرباء من الأردن والغاز المصري لأسباب واهية. كذلك، فإن ميول "الوسيط" الاميركي في موضوع تعيين الحدود البحرية كانت دائماً في مصلحة العدو الذي كان يصب ضغوطه على لبنان ويطلب إليه التنازل، وبدا ذلك واضحاً في تصريح عاموس هوكشتاين قبل شهور والتي تضمنت استخفافاً بمطالب لبنان قياساً على ظروفه الاقتصادية التي تتطلب في رأيه تقديم لبنان ــ وليس اسرائيل ــ تنازلات، قبل أن يتغير تعامله في ضوء دخول مسيّرات المقاومة على الخط.
ــ ظروف لبنان الاقتصادية: مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تمسك لبنان بحقوقه الى الآخر، من الأهمية بمكان النظر الى اللحظة التاريخية الحساسة التي يمر بها لبنان، فموضوع الثروات البحرية أصبح بمثابة مُقوّم وجوديّ بالنسبة له في ظروفه الصعبة الحالية التي قد تدفع به الى الانهيار والتفكك، لكنه ليس كذلك بالنسبة الى كيان العدو الذي يستحوذ على حقول غازية أخرى تدرّ عليه أموالاً لا بأس بها. والوقت عامل حاسم في اغتنام الفرص، خاصة أن البدائل المطروحة لإنعاش وضع لبنان الاقتصادي مكلفة وغير كافية، سواء عبر صندوق النقد الدولي أو عبر قروض دولية.
ــ تركيبة لبنان الداخلية: وهذه نقطة ضعف لها أثر في المفاوضات، فالتمزق السياسي قد يمنع المضي في خط مقاوم للضغوط الاميركية الى نهاية الطريق. وهذا التمزق انعكس سلباً في الماضي في التعامل بنفَس موحد مع موضوع الحدود البحرية، في ظل تغير موقف لبنان أكثر من مرة من الخط B1، الى الخط 23، الى الخط 29 الذي لم يتبنَّه لبنان رسمياً. كما ان النخبة السياسية تكفلت بتعطيل التوجه شرقاً بسبب الخوف من عقوبات أميركية على أموالها ومصالحها.
لكن الظروف السياسية والاقتصادية الآنفة الذكر لم تَحُل دون التوافق أخيراً على حد أدنى يمكن الانطلاق من خلاله لبدء الإستفادة الفعلية من الثروات الغازية البحرية. وهذا التوافق أمْلته عوامل داخلية وخارجية. ومن شأن المضي في طرح ما هو أبعد من الخط 23 أن يكون سبباً لجمود المفاوضات لفترة طويلة، وقد يكون من شأنه أيضاً أن يحشر العدو في الزاوية ويقود الى حرب يعمل لبنان جهده لكي تكون الملاذ الأخير وليس الأول. والى الأهمية الاقتصادية لتعيين الحدود بالنسبة للبنان، تكمن الأهمية السياسية في أن لبنان أحبط كل المقترحات التي هدفت لإيجاد قنوات خلفية للتطبيع (من خلال شراكة في تقاسم العائدات) أو الاعتراف بحقوق للعدو في حقل قانا الواقع في أغلب مساحته ضمن الخط 23.
دور المقاومة
تكفلت المقاومة بتوفير مظلة حماية لموقف الدولة في المفاوضات غير المباشرة من أجل تحرير ثروات لبنان البحرية. وفي هذا المجال، يمكن تسجيل الآتي:
- هناك حقيقة يقر بها الجميع وهي أن الضغط المباشر من المقاومة على كيان العدو سرّع في التوصل الى النتيجة التي تم التوصل إليها، وإلا لكُنّا رأينا مشهداً آخر مختلفاً كلياً: كانت منصة الاستخراج الإسرائيلية بدأت العمل في حقل "كاريش" من دون النظر الى أي اتفاق يتضمن حقوق لبنان. وفي هذه الحالة، سيكون لبنان في وضع تفاوضي أضعف بحكم الأمر الواقع وسيتأخر في الحصول على نتيجة ربما لسنوات. ولهذا، لا يكفي أن تكون على حق للحصول عليه، بل لا بد من قوة تسنده وتحفظه وتدفع الى جعله في متناول اليد. ولا بد من الإشارة الى أن جاهزية المقاومة عطّلت تفكير العدو في أي سيناريو لاستخدام قوته العسكرية الضاربة من أجل فرض كلمته على لبنان. ولا يدرك كثيرون أثر حالة الجهوزية لدى المقاومة التي بعثت برسائل قوة علنية تارة، وخفية تارة أخرى، على مواقف العدو ومسار التفاوض غير المباشر.
- حزب الله ليس طرفاً في تعيين الحدود، وإلا لكانت النتيجة مختلفة. فطريقة حزب الله في مواجهة الضغوط تختلف عن طريقة الدولة اللبنانية التي تتحكم بها سيرورة خاصة تعكس طبيعة المجتمع السياسي اللبناني المتنوع الاتجاهات والأهواء. لكن حزب الله كان معنياً برسم خاتمة إيجابية لهذا الملف إن أمكن الحفاظ على حقوق لبنان، وبخلاف ذلك، كان هناك خياران بديلان أمام حزب الله:
1- معارضة وثيقة التعيين. وهي تحمل مخاطر من شأنها إبقاء الوضع على ما هو عليه، وتأخر حصول لبنان على حقوقه، ووضع حزب الله على طرف خلاف مع الدولة اللبنانية. من الناحية الواقعية، تمثل وثيقة تعيين الحدود الحدّ الأدنى مما يمكن أن يحصّله لبنان، ولو كان لبنان في وضع أفضل من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، لكان بالإمكان الانتظار الى حين توفر ظروف مناسبة وتحقيق مكاسب أكبر. ولكن فترة الانتظار تحمل خطر وقوع مواجهة عسكرية نتيجة قرار العدو القيام بعملية استخراج الغاز من حقل "كاريش"، كما تحمل من جهة ثانية خطر المزيد من تراجع الأوضاع الاقتصادية للبنان سواء حصلت حرب أم لا.
2- النأي بالنفس عن وثيقة التعيين. وهذا الخيار ليس وارداً، لأن المقاومة معنية بالعمل على سويّة واحدة مع بقية الفرقاء في لبنان من أجل استرجاع الحقوق الوطنية، وهي لا تلعب دوراً موازياً للدولة في تعيين الحدود. وترى المقاومة مصلحة أكيدة في توفير أفضل قاعدة توافق من أجل تحسين فرص انتشال لبنان من المأزق الراهن.
تبقى كلمة أخيرة، وهي أن الفيصل الحقيقي لهذا الإنجاز هي في مراقبة تطبيقه، خاصة لجهة تمكين الدولة اللبنانية من استثمار حقوقها في الحقول البحرية والوقوف على جدية الطرفين الاميركي والصهيوني في احترام تعهداتهما. وهذا يستلزم البقاء في حالة تيقظ، ولدى لبنان "فيتو" خاص به وهو امتلاك القدرة على تعطيل استخراج الغاز من المنصات البحرية للعدو في حال دعت الضرورة لذلك.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024