نقاط على الحروف
الإعلام يرقص على دماء الشهداء: عنصرية وتبرير للقتل
ميساء مقدم
ساعات ثقيلة أمضاها اللبنانيون أمام الشاشات في حالة ذهول وخوف وصدمة. كمين "القوات اللبنانية" في الطيونة للشبان المارّين باتجاه مكان الاعتصام في العدلية خطف الأنظار واضطرت القنوات الى قطع بثها في ساعات النهار لنقل المستجدات، كما العادة كلٌّ "على طريقتها".
لكن "الطرق" هذه المرة كانت قاتلة كما رصاص القنص. بكثير من البرود والعلو والاستخفاف والتكبّر على دماء الشهداء، جاءت التغطيات المتلفزة على اختلاف التوجهات، باستثناء قناتي "المنار" و"NBN".
المتابع للنهار الدامي، كان يمكن له ملاحظة أنه حتى الدماء في لبنان مسيّسة، وأن الطبقية تنسحب أيضًا على الشهداء، ويبدو أن شهداء الأمس لم يكونوا من "الصنف الأوّل" الذي ترغبه الشاشات، وتنقل مظلوميته، أو تتسابق للحصول على أخباره، كما جرت العادة.
ما هو "الصنف الأول" من "الشهداء" الذي ترغبه الشاشات؟ هو ذلك الذي يقطع طريقًا رئيسيًا مثلًا على سائر أبناء الوطن ويحصل اشكال مع العابرين فيسقط قتيلًا، هنا، سيُرفع اسمه عاليًا، وسيكون على كل اللبنانيين ان يحفظوا صورته عنوة لكثرة التكرار على الشاشات، وسيحضر أبناؤه وعائلته طويلًا كضيوف شرف في البرامج، ونشرات الأخبار، ويُقطع البث في أكثر من مرة لنقل أخبار جنازته، وتغطية مراسم اضاءة الشموع لأجله. هذا الصنف تهواه الشاشات اللبنانية.
أمّا الصنف الذي يحمل فكره ورأيه وينزل الى الشارع مسالمًا أعزل ليتظاهر أو يعتصم متمتعًا بحقوقه الديمقطراطية المكفولة بالقانون، فيُلاقى بوابل من رصاص القنص القواتي من على أسطح المباني، ليرتقي سبعة شهداء ويسقط أكثر من ثلاثين جريحًا، فهذا الصنف لا يستهوي القنوات اللبنانية.
"MTV": تبرير القتل
الدم المظلوم المراق على الطرقات لم تكن له حرمته. قناة "MTV" التي تتلقى دعمًا سعوديًا ليس خفيًا لترويج سرديّات "المملكة" للواقع اللبناني، حوّلت الجلاد الى ضحية، وحوّلت الضحية الى جلاد، وقالت في مقدمة نشرة أخبارها الرئيسية: "شردت المنظمات الفلسطينية عن وجهتها الأساسية عام 1975 ودخلت بوسطتها عين الرمانة وحلمت بجونية، كانت الحرب المشؤومة، وعندما شرد قسم من التظاهرة المطالبة بإقصاء القاضي البيطار عن طريق قصر العدل ودخلت عين الرمانة، كانت هذه الحرب الصغيرة التي احيت ذكريات أليمة جدا، إن بالضحايا الذين سقطوا أو بالدمار الذي حصل. والمؤلم أكثر أن الجامع بين الشردتين هو فائض القوة واستسهال اقتحام الناس في هدأة صبحياتهم، في اسرتهم وأسرهم، وإذا اختلفت الأهداف والهدافون الآن غير أن المستهدف واحد، وردة الفعل واحدة".
هكذا إذًا، تبرر قناة آل سعود في لبنان قتل المتظاهرين السلميين، بل وتقتلهم مرّة ثانية باتهامهم زورًا بالدخول الى منطقة عين الرمانة وقيامهم بارتكابات لم تحضر سوى في احلام كاتب مقدمة النشرة، علمًا أن أشرطة الفيديو واضحة وجليّة وتظهر الاطلاق الأول للرصاص في الزمان والمكان.
وبما أن "MTV" ليست قناة "الحقيقة" ولم تكن يومًا كذلك، فقد أغاظتها الرواية الرسمية لوزير الداخلية بسام المولوي حول اطلاق مسلحين رصاص القنص على رؤوس المتظاهرين، وشنّت هجومًا عليه بالقول: "المؤلم المؤسف أكثر، أن وزيرا أمنيا بخلفية عدلية تبنى وبسرعة كما أحد أسلافه عام 1975، سردية فريق فوصف ما جرى على انه اعتداء مجرم على نخبة مسالمة كانت تمر في المكان ما وضعه في موقع الفريق أولا، وفي موقع الحكم المتسرع ثانيا، وفي موقع المحرض".
"LBC": تعمية وتمييع
وسط بحر الدماء وبينما أهالي الشهداء لم يلملوا أجساد أبنائهم بعد، اختارت "LBC" أيضًا (التي تتلقى بدورها الدعم المالي الأميركي) أسلوب التمييع والتضليل والتعمية، واستعرضت في مقدّمة نشرة أخبارها الرئيسية تاريخ "الاقتتال اللبناني" لتنتقل فجأة الى أحداث جلسة مجلس الوزراء الأخيرة: "حين يرفع وزير في هذه السلطة صوته في وجه رئيس الجمهورية، ويطرح بندا من خارج جدول الأعمال، من دون أن يكون له حق دستوري في ذلك، ويتوعد وزير الداخلية، أين تكون السلطة؟". ثم تقول: "من التسخيف القول إن كل هذا التحشيد هو لقبع طارق البيطار.."، وكأن المراد أيضًا أن يحمل المتظاهرون السلميون وزر الاعتداء عليهم قنصًا في الرؤوس.
دماء من صنف آخر
قناة "الجديد" التي كانت أول شاشة تنقل الحدث الدامي منذ بدايته، وتوثق كاميراتها الكمين المسلح في الطيونة منذ الرصاصات الأولى في بثها المباشر، أكملت "سهرتها" أمس باستضافة بعض أهالي المنطقة التي حصل فيها الكمين لسؤالهم عن أوضاعهم النفسية وحالتهم الوجدانية بعد "الذعر" الذي تعرضوا له، دون التذكير طبعًا بهوية الفاعل والمرتكب بل بالتعميم والتعمية الشمولية ذاتها.
المفارقة التي كانت لافتة، هي عكوف الاعلام العوكري ـ السعودي على التركيز على جوانب انسانية في كمين الطيونة دون أخرى، أو بالأحرى، التركيز على الحالات الثانوية وترك الأساسية منها. فمثلًا، استضافت كل من "الجديد" و"LBC" خبيرة في علم النفس، لتشرح للأهل الانعكاس النفسي للذعر الذي عاشه التلامذة في المدارس وكيف يمكنهم تخطي هذه الحالة مع أبنائهم. وهذا فعل جيّد ومحمود ونافع على أيّ حال. لكن كان أجدى وأولى وأحق بالقناتين، أن تخصصا فقرة ارشادية أيضًا، لإخبار عائلة الشهيدة مريم فرحات، الوالدة لخمسة أبناء، ما هو الأسلوب الأفضل لاخبار طفلتها هاجر ابنة الأعوام الخمسة، وهي عائدة من روضتها، أن أمها لن تستقبلها بعد الآن، وأن صباحها ذاك الذي ألبستها أمها فيه ثيابها، وسرّحت فيه شعرها، وأهدتها فيه قبلة على خدّها.. لن يعود، لأن هناك من ارتأى أن يهديها رصاصة قنص في بيتها "الآمن".
يقول الكاتب المتخصص بالعلوم الجنائية وحقوق الانسان عمر نشابة في تغريدة له: "إعلام يركّز على هلع أطفال الطبقات الوسطى والميسورة من صوت الرصاص ويهمل تغطية مأساة عائلة مكافحة استشهدت منها أم لخمسة أطفال هو اعلام عنصري يساهم في شق المجتمع ويضرب أي فرصة لقيام لبنان وطن لجميع أبنائه وبناته".
كان حريًّا بهذه القنوات، أن توقف برمجتها العادية احترامًا لدماء الشهداء السبعة حتى الآن، وأن تكفّ عن الأضاليل ونسج الاتهامات ولو لساعات قليلة ريثما يشيع الأهالي فلذات أكبادهم. لكن ما حدث، يثبت أن لدى البعض في لبنان دماء من فئة ثانية، وشهداء من فئة ثانية، وأرواحًا من فئة ثانية. بئس الاعلام.. وبئس الانسانية المزعومة من قنوات "شيا" و"طويل العمر".
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
09/11/2024
أمستردام وتتويج سقوط "الهسبرة" الصهيونية
08/11/2024
عقدة "بيت العنكبوت" تطارد نتنياهو
07/11/2024