على العهد يا قدس

قضايا وكتب

"الروح المجرد" : أحوال أهل التوحيد والعرفان
26/03/2025

"الروح المجرد" : أحوال أهل التوحيد والعرفان

ما إن أَنهى الطالب الجامعي محمد حسين الطهراني دِراسته للهندسة الصناعيّة حائزَا الشهادةِ الفنّية_ وجاء أولا على كليّة الفنون الصناعيّةِ في طهران-  حتى أعطته الحُكومة مِنحةً للسّفر إلى أَلمانيا لمتابعة دراسته، ليعودَ ويتسلّم المسؤوليات والمناصب العالية في هذا المجال، لأنه (الحائزِ على وسام الفخر والتشجيع). ولكنه رفض هذا العرض بعد أن هبت عليه نسائم باردة قادمة من سماء الحوزات العلمية في العراق، فاستجاب سريعا لهينمات نسائمها الواعدة واتخذ القرار الذي غير مجرى حياته شادا الرحال نحو مدينة النجف الأشرف لتلقي العلوم الدينية، ومن هناك راح يتابع الدراسة والتحصيل ويتسقط أخبار النجوم المحلقة بعيدا في سماء النبوغ والمعرفة، موليا أهمية خاصة لتلك الأسماء العرفانية التي نجحت في العبور من عالم المادة إلى عالم المعنى عبر الرياضات والمجاهادات النفسية، ليقع على إسم العارف السيد هاشم الحداد أحد أبرز تلامذة العارف الكبير السيد علي القاضي وهو من هو في معرفة دقائق أسرار التوحيد والعرفان.
عندما سمع الطهراني بأحوال ومقامات السيد الحداد راح يسأل عن أخباره حتى استدل إلى مكان إقامته و محل عمله في كربلاء بالقرب من المقام الشريف، فقصده طالبا إرواء ظمئه وتوقه إلى القرب من ساحات القدس والفناء في الذات الأحدية.
عندما وصل إلى محل الحدادة وهو دكة صغيرة  يقف فيها سيد شريف خلف سندان حديدي وقد غطس نصف جسده في الأرض قبالة السندان. كان منهمكا بطرق الحديد لصناعة الحدوات وإلى جانبه مساعده " كان وجهه متوهجا كوردة حمراء تلتمع فيه عينان أشبه بياقوتتين حمراوين وقد اكتنف الغبار وذرات الفحم ودخان الفرن رأسه ووجهه. كان حقا وحقيقة عالما عجيبا"، دخل العلامة الطهراني فسلم ، وقال : جئت لتسمروا في قدمي نعلا. إنتبه السيد هاشم إلى أن القادم إليه ليس زائرا عاديا، فطلب من مساعده  مغادرة المكان محتجا بشراء بعض الأغراض والتفت إلى الزائر الطهراني وخاطبه قائلا : "أيها السيد العزيز. هذا الكلام  محترم جدا ، فلم تتلفظون به أمام معاوني الذي يجهل مثل هذه الأمور"ثم صب لضيفه قدحا من الشاي وراح يترنم بأبيات من المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي بلحن بديع وصوت رخيم يتفجر عشقا، وينثال جاذبية وروحانية " شد قروي ثوره في الحظيرة، فجاء الأسد وافترسه وجلس مكانه، وفي الليل جاء القروي إلى الحظيرة ليتفحص الثور ويتفقده، فكان يمسح على أعضاء الأسد بيده، يمسح على ظهره وجنبه، أعلاه وأسفله، فقال الأسد: لو ازداد الضوء لمات الرجل فزعا وتفطر كبده هلعا، فهو يحك جلدي ويلمس جسدي بهذه الوقاحة ويحسبني في ظلام الليل ثورا... يقول الحق دوما : أيها الأعمى المغرور ، ألم يخر جبل الطور من إسمي مندكا" كانت هذه الأبيات بمثابة الدرس الأول الذي قدمه الحداد لضيفه ثم تتالت بعدها الدروس المستفادة من تجربته الحياتية وجهها يتركز على التعبد بروح الشريعة ومقاصدها من دون إغفال ظاهرها والإلتزام  التام بالتقوى وتطهير الجوارح من كل ما خلا وجه الله. 
يمضي الطهراني بعيدا في رحلة التعرف على أبعاد شخصية أستاذه الحداد و يستمع إلى إرشاداته ونصائحه ودروسه العملية في العبادة التي اختار لها مكانا في دكة جنب المسجد الذي كان الحداد يتعاقد أمر تنظيفه ، وهي دكة بطول وعرض٢×٢ مترا تقريبا وينخفض سقفها إلى الحد الذي يتعذر الصلاة من قيام، إذ كان الرأس يرتطم به آنذاك ، وفي الحقيقة فإنها لم تكن غرفة ، بل ملأ زائدا كان البناء قد تركه كمخزن أسفل الدرج المؤدي إلى سطح المسجد، لكن السيد الحداد كان قد اختار ذلك المكان في المسجد لخلوت بنفسه وذلك لظلمته وعزلته، وكان مناسبا للدعاء وقراءة القرآن والأوراد والأذكار،  وكان في تلك الدكة " سماور" وأدوات إعداد الشاي والسهر حتى ينقضي الليل واقترب آذان الفجر في الحديث، وقراءة القرآن والبكاء وقراءة أشعار ابن الفارض وتفسير النكات العرفانية العميقة ودقائق أسرار عالم التوحيد والعشق والهيام . أما في ليالي شهر رمضان فكان السيد الحداد يصطحب مريده الطهراني إلى السحور في بيته ويعود بخوان هو عبارة عن قميص عربي (دشداشة)  وضع عليه قدر من الفجل والتمر ورغيفان من الخبز، يضعها على الأرض ويقول: باسم الله...ولما كان النهار طويلا والهواء لافحا ، يعتذر الطهراني من أستاذه عن تلبية دعوته لتناول السحور لأن هذا المستوى من الزهد والتقشف سيؤدي به إلى المرض والعجز عن الصيام . 
 يودع الطهراني أستاذه الحداد مغادرا إلى النجف الأشرف لمتابعة دراسته منهيا سفره الأول إلى كربلاء ، لتتالى بعدها أسفاره إلى كربلاء للقاء أستاذه ومحبوبه لينهل من معين روحانيته وعلمه .
 جلسات وسهرات أنيسة يتخللها نقاشات وحوارات عميقة حول إشكاليات ومطالب عميقة حول ضرورة وجود السالك في حياة السالك ونظرية وحدة الوجود وابن عربي، وفتوحاته المكية، وإبن الفارض وتائيته...
إذا أردنا الحديث عن مظلومية تقع بحق بعض الكتب فلا شك أن كتاب: الروح المجرد" للسيد محمد حسين الطهراني الصادر عن دار "المحجة البيضاء" يأتي على رأس قائمة هذه الكتب المرجعية التي تضيء جوانب مخفية في سيرة حياة مغايرة لما اعتدنا عليه من سير  القادة والعلماء والشعراء والعظماء . إنها سيرة عارف كبير من طراز نادر بات العثور على أمثاله في مثل هذا الأيام.

علماء الدين

إقرأ المزيد في: قضايا وكتب

خبر عاجل