معركة أولي البأس

قضايا وكتب

مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (3/2)
12/12/2023

مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (3/2)

مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (3/1)
د. شوكت أشتي

 العضوية في حركة فتح

إن عضويته في حركة فتح خضعت، أيضًا، لنقاشات داخل الحركة، نتيجة لخلفيته "اليسارية"، (شبيهة بانخراطه في صفوف الحزب الشيوعي سابقًا، وإن من زاوية مختلفة)، حسمها كمال عدوان بقبوله في صفوف الحركة. وقد جسدت فتح، بمرونتها التنظيمية والسياسية، قناعاته وتحولاته الفكرية. خاصة وإنه اشترط الحفاظ على استقلاليته. غير أن هذا الانخراط لم يكن مُريحًا للعائلة، التي سرعان ما عانت من استشهاد أخيه جورج، ابن الثانية والثلاثين عامًا.

أحداث أيلول ومفاعيله

يعتقد أن أحداث أيلول في الأردن العام 1970، ضد المقاومة الفلسطينية، كان يمكن أن لا تصل إلى ما وصلت إليه، لو أُحسن إدارة الصراع. لأنه من الممكن "التعايش" بين فكرة "الدولة والثورة"، لتأجيل الصدام، مُقدمًا تجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان قبل الحرب الأهلية 1975، ثم تجربة المقاومة الإسلامية، (سيتم مناقشة التجربتين في سياق المداخلة). غير أن المقاومة في الأردن انجرت إلى صراع المحاور العربية. إضافة إلى أن تجسيد منطلقات حركة فتح، في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، لم يكن دقيقًا. خاصة وأن الرغبة كانت قوية، عند البعض، لإحداث قطيعة بين الضفة الغربية والاردن. هذا إلى جانب عدم التوافق حول الدعوة لإزالة آثار العدوان، والتمادي في الهجوم على عبد الناصر، لقبوله مشروع روجزر.

 هذا التوجه، دلّل على غياب بُعد النظر عند المقاومة، وعدم فهم الاستراتيجية، وعدم المقدرة على تقدير موازين القوى، في إطار المؤامرة الدولية ضد المقاومة وما تمثله. يُضاف، السعي لانتزاع صفة الممثل الشرعي الوحيد، بحجة "أن الفلسطينيين هم المؤتمنون على القضية". لكن للأسف والحزن الشديد، فإن القيادة الفلسطينية هي التي تخاذلت وقدمت التنازلات الخطيرة في مدريد وأوسلو لاحقًا. غير أنه بقي، بعد احداث الأردن (1969-1971) يُدافع عن قيادة فتح، بالرغم من الهجوم عليها من المنظمات الأخرى.
إن الخروج من الأردن، وسّع دائرة النقد داخل صفوف حركة فتح. حيث تمحور النقاش النقدي، حول اتجاهين: الأول، كان طابعه "نقد المزايدة" في الثورية، وهذا ما رفضه. الثاني، أخذ طابع النقد بعد تحديد الموقف، وبحسب كل قضية، وهذا ما تبناه ومارسه. غير أن هذا الاتجاه أدى، بالنسبة إليه، إلى أمرين: الأول، بدا وكأنه على "يمين القيادة" المُتهمة أصلًا باليمينية. الثاني، أسس إلى تشكيل تيار واعد داخل حركة فتح، وليس خارج أطرها أو مُهددًا لهذه الأطر.

التيار والسرية الطلابية

أدت هذا النقاشات المُثمرة والغنية، إلى تبلور "تيار" سياسي فاعل ومميز عبر عن نفسه، كـ"تنظيم داخل صفوف حركة فتح". من هنا تابع، في متن الكتاب، بدقة وتفصيل مسار ولادة التيار وطبيعته، ورموزه الأساسيين، ومنطلقاته الفكرية/ النظرية، المستندة إلى الحوار المشترك، وهدفه المركزي المتمثل في قتال العدو، وتحديد بوصلته باتجاه فلسطين، فتظهر خصائص التيار متلخصة في الآتي:

- في طبيعة التنظيم، اتسم التنظيم بوضعية غير معهودة في الحياة السياسية، حيث كان متحررًا من أشكال التنظيم التقليدية والمعروفة، بهيكلها وبنائها الرأسي وتسلسلها التنظيمي. إذ لم يكن للتنظيم نظام داخلي، أو تسلسل قيادي، كما أن العلاقات داخله كانت مُرتكزة في الأساس على "الثقة والوحدة والتآخي والولاء المشترك للخط". لهذا لم تستطع قيادة فتح مواجهته، كونه ليس تنظيمًا داخل التنظيم، وكان رموز القيادة "ياسر عرفات، أبو إياد، وأبو جهاد، يتميّزون غيظًا منا". غير أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، غير محاولة التخريب من الداخل.

- في المنطلقات النظرية/الفكرية، ارتكزت المنطلقات على أسس حركة فتح ومبادئها، وكان لكتابات منير شفيق التي صدرت بعد 1975، أثرها المهم. غير أن هذه الإصدارات كانت، برأيه، ثمرة نقاش داخلي، ممّا يجعلها وليدة "عمل جماعي". لأن النظرية يجب أن تنبع من الواقع، "واقعنا". لهذا لم يستوعب الماركسيون هذه التجربة، الأمر الذي جعلهم "يتهموننا" بشتى التهم، تارة بالماوية، وتارة أخرى بأن التيار جماعة منير شفيق... لكنها كلها اتهامات غير صحيحة مُطلقًا.

 كما فتحت الإصدارات وسلسلة النقاشات، نوافذ حوار مع أطراف أخرى انضمت للتيار، منهم هلال رسلان (أبو محمود) الأمين العام للحزب الشيوعي العربي (ماوي الاتجاه)، والحوار مع عادل عبد المهدي، مسؤول "وحدة القاعدة" المنشقة عن الحزب الشيوعي، وعادل حسين. هذه الحوارات داخل التيار وخارجه ساهمت في التجرؤ على اختراق الحاجز الذي يفصل بين الماركسيين والإسلام. وفي هذا الفضاء كان اللقاء مع محجوب عمر (رؤوف نظمي ميخائيل صليب) على المنطلقات ذاتها.

- في التجسيد العملي، كانت السرية الطلابية، ( كتيبة الجرمق)، الإطار النضالي للقتال العسكري، بوجه العدو الصهيوني. حيث توجهت إلى الجنوب بعد معارك الجبل والاصطدام مع الجيش السوري في بحمدون، وكانت نموذجا في المواجهة، والعلاقة مع الجماهير في الجنوب، رافضة بقوة أي مواجهة مع الناس تحت أية ذريعة كانت. فالهدف تحرير فلسطين وجمع كل الامكانات لتحقيق هذا الهدف. لذلك، عمد إلى الانفتاح، وإقامة أوثق العلاقات مع القوى السياسية كلها في لبنان، من هنا كانت لقاءاته المهمة والمثمرة مع الإمام موسى الصدر، حيث أصبح، منير شفيق، عضوًا في قيادة المحرومين. وهذا الأمر لم يكن مقبولًا من فتح، ومن الأطراف الأخرى خارجها. كما أقام التيار اتصالات وثيقة مع الحركات الناصرية، وعمدوا إلى الاتصال بعلماء كبار من السُنّة والشيعة، وبعض القيادات السُنيّة التقليدية...

 هذا التوجه، زاد "الحجر" عليه داخل حركة فتح، خاصة بعد ندوة الجامعة العربية، التي جاءت رفضًا "للنقاط العشرة"، التي تُبيّن، بوضوح، سعي القيادة للدخول في التسوية، مع ما يتركه هذا من مضاعفات سلبية على القضية، كون "خطّ السعي إلى الدخول في لعبة التسوية"، من شانه أن يضع "الحب في طاحونة التآمر". لذلك طُلب منه إلغاء الندوة، وعند رفضه، تم إطلاق النار عليه مرتين، داخل الندوة، لإرهابه، لكن دون جدوى، إذ تابع محاضرته. لكنه رغم ذلك لم يدخل في لعبة الانشقاقات عن حرك فتح، أو يشجعها. إذ سرعان ما رفض انشقاق صبري البنا، رغم تقاطع التيار، بداية، مع بعض طروحاته.

الإيمان منطلقًا

يشير صاحب الذكريات إلى مسألة على قدر كبير من الأهمية، سواء لكونها لم تزل مسألة "خلافية" بامتياز، أو لحضورها الدائم في مسار النضال السياسي. تتمثل هذه المسألة في موقع الإيمان في العمل السياسي. ويستعرض تجربته، والتحول النوعي، الذي اعتمده فكرًا وسلوكًا، منذ خروجه من الحزب الشيوعي، وتجسد منذ سبعينيات القرن الماضي.

فقد اعتبر أن "الفطرة التي فُطر عليها الإنسان تنحو إلى الإيمان...". لذلك تبيّن له أن "تطبيق نظرية الإيمان" في أرض الواقع "أثبتت صلاحيتها"، رغم أن بعض من تحالفوا مع التيار "لم يقتنعوا بالتصور الإيماني الإسلامي". ويمكن لمن عايش تجربة "الكتيبة الطلابية"، أن يلاحظ مدى التزام المقاتلين والقياديين بهذه الفكرة وممارستها، خلال تواجدهم في مواقع القتال بوجه العدو الصهيوني في جنوب لبنان.

تعود بذور هذا التوجه بالنسبة لصاحب الذكريات، إلى نشأته. وقد بلورها، لاحقًا من خلال كتاباته. ويوضّح مدى تأثير ماو تسي تونغ في تأصيل هذه الفكرة، حيث أكد ماو "إن الأفكار الثورية الصحيحة يجب أخذها من الجماهير". كما أن زيارته لفيتنام، وما أشار إليه هوشي منه " الماركسي اللينيني"، إلى ضرورة الاستفادة من "الأسطوريات"، الأمر الذي جعله "منسجمًا موضوعيًا مع القيم الدينية والمبادىء الشعبية" من جهة، و"حفزّه" على التخلى عن "التفكير الماركسي الأوروبي" من جهة ثانية، ورسخ لديه ضرورة التوصل إلى "فكر تأصيلي عربي إسلامي ثوري"، ممًا يجعل "المرجعية الإسلامية"، و"النظرية الإيمانية"، منطقًا يوجه عمله ويُحدّده. كما يُشير إلى أهمية تجربة الثورة الإسلامية في إيران، التي اعتبرت الإسلام، ليس مجرد طقوس في المساجد وتدين فردي، بل بوصف الإسلام أيضًا، وسيلة وجهاد ضد الطغيان والاستكبار العالمي والكيان الصهيوني.

إن هذه الأفكار، تحتاج إلى المزيد من النقاش، أولًا، والخروج من "القوالب" الجامدة والأحكام المُسبقة، ثانيًا. خاصة وأن القوميين العرب، بعامة، قبل تحول بعضهم للماركسية كانوا غير "متعارضين" مع الأفكار الإيمانية. كما أن الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني في السبعينيات كان يُصلي في الجامع، إضافة إلى أن ميشال عفلق له كتابات حول هذا الموضوع، حيث اعتبر إن "العروبة جسد روحها الإسلام". ولعل ما تقدمه غزة في هذه اللحظة المفصلية من تاريخنا، شعبًا ومقاتلين، تُؤكد بما لا يدع أي مجال للشك، أن الإيمان هو العامل الأساس للصمود الأسطوري بوجه وحشية جيش الاحتلال الصهيوني النازي.

المرجعية الإسلامية

قد يكون التحول باتجاه الإسلام كمرجعية، الخصيصة "المميزة" و"المثيرة" في مساره النضالي وتوجهه الفكري. حيث أسس لهذا "التحول" المرور بمرحلتين: الأولى، رافقت مرحلة الطفولة المتأخرة، عندما كان الوالد يحثه على حفظ آيات من القرآن الكريم من جهة، ومواظبته على المشاركة في دروس الدين خلال دراسته في المدرسة الرشيدية والإبراهيمية من جهة ثانية، ومناقشاته مع قادة حزب التحرير والاخوان المسلمين. والثانية، بعد العام 1966، حيث بدأت تتبلور لديه، بعد مواقفه النقدية من الشيوعية والماركسية، فكرة السعي للبحث في التاريخ والتراث والأصالة، الأمر الذي جعل كتاباته من السبعينيات تلحظ "منهجًا مختلفًا عن المنهج الماركسي، أو لغة مختلفة أيضًا، في التعامل مع الإسلام". كما تأثره في حينها، بفكرة ماوتسي تونغ المستندة إلى "أن الأفكار الثورية الصحيحة يجب أخذها من الجماهير". لذلك كان هاجسه ربط الثورة بالشعب والجماهير، الأمر الذي جعل انسجامه، فكريًا وسلوكيًا، منذ البدايات منسجمًا، بصورة عامة، مع "القيم الدينية والمبادئ الشعبية".

بناء عليه ترسّخت فكرة أنه لا يمكن لأحد أن يأتي بنظرية "النظرية الماركسية"، ويهبط بها "كمظلة على واقع ما". مستشهدًا بآيتين من القرآن الكريم: {لعَلّي أَرْجِعُ إلى النَّاس لعَلّهُمْ يَعْلَمُونَ} (سورة يوسف:46)، والآية 199 من سورة البقرة { ثمَّ أفِيضُ من حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ}. هذا التحول التدريجي، جعل الإسلام منطلقه. فـ"نظرية التوازن" في القرآن الكريم، أكثر دقة من "نظرية نفي النفي" الماركسية، وغيرها من المسائل، منها مثلًا، الديالكتيك، وموضوع الانسان....، غير أن كل النقاشات لم تكن على حساب استمرارية العمل القتالي. من هنا جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية للفت "الأنظار إلى الإسلام باعتباره ليس مجرد طقوس في المساجد وتديّن فردي، أو جهاد ضدّ الاحتلال، بل بوصفه أيضّا وسيلة نضال وجهاد ضدّ الطغيان والاستكبار العالمي، والكيان الصهيوني، كما بوصفه تحرير أمة ووطن ومشروعًا نهضويًا كبيرًا".

مستعرضًا بعض الموضوعات حول المرجعية الإسلامية، مثل التعزية بعد موت أحد، مقارنة بالماركسية، مُذكرًا بمقالته حول المسيحيين العرب، وتراثهم العربي الإسلامي، ونقاشاته مع حزب تودا الثوري في إيران، محاولًا إقناعهم "بضرورة تأييد الخميني والوقوف إلى جانب الثورة"، وتوضيحه مدى مرونة الخميني و"اعتداله وواقعيته".
من هنا كان التحول للإسلام لمواجهة "الاهتراء والتراجع اللذين أخذا بالاستشراء في فتح بشكل خاص، والمقاومة عمومًا"، بدءًا من المنتصف الثاني من الثمانينيات، إلى جانب موقع الإسلام الحضاري والتاريخي في حياة الأمة العربية وجهادها ضدّ الغزاة.

إن مجمل هذه التحولات الفكرية، من الشيوعي، إلى الناصري، إلى حركة فتح ومجريات مساراته السياسية، أوصلت إلى المرجعية الإسلاميًّة، وإلى ضرورة "دعم الحراكات الشبابية التغيرية". وهذا ما وسّع دائرة الانتقادات بحقه، حيث يعتبره البعض "تقلبا". غير أن ما قام به، لا سيما في موضوع الثوابت الفلسطينية والوطنية والقومية والنضالية، تجعل الاتهام غير منطبق عليه. بل هذه الثوابت التي أمن بها، ولم يزل، ربما يجعل الاتهام الأقرب هو "الجمود" و"الثبات"، كونه لم يُغيّر "ثابتًا واحدًا"، منذ لحظة خروجه من الحزب الشيوعي.

 مجمل توجهاته وكتاباته دفعت البعض من الإسلاميين إلى وصفه بـ "المفكر الإسلامي". غير أن هذا التوصيف لم يكن يتصوره، خاصة وأنه لم يتدخل في الفقه، أو في تأويل القرآن الكريم، كونه لا يستطيع "خوض هذا البحر". لكن ميزته هي في فهم الوضع الدولي والفكر الغربي واليسار والتيارات السياسية المختلفة....الخ. وهذا المنحى الفكري السياسي هو ما يحتاجه الإسلاميون المعاصرون، من أجل امتلاك ناصيته. لهذا من الضروري، برأيه، العودة إلى المنطلقات الأساسية في قضايا العدالة الاجتماعية في الاقتصاد، وفي رفض التبعية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية كمبدأ.... الخ، وهذه المنطلقات هي أقرب إلى الموقف الإسلامي في جوهره.     

منطلقات تأسيسية

قدمت تجربة السرية الطلابية (كتيبة الجرمق)، نموذجًا مُشرفًا خلال الاجتياح الصهيوني العام 1982، وخاصة في معركة قلعة الشقيف. حيث تم تصنيف هذه المعركة من بين المعارك التكتيكية المميزة عالميًّا. إذ واجه ثلاثون مقاتلا هجومًا من أكثر من لواء من جيش العدو. إضافة إلى القصف التمهيدي الذي تعرضت له القلعة، قبل الهجوم. لكن المقاتلين صمدوا حتى الاستشهاد. لدرجة قام العدو بجمع الجثث، بعد المعركة، وأدى لهم تحية الشجاعة. كما سجل مقاتلو المقاومة والحركة الوطنية والجيش العربي السوري في بيروت، وغيرها، مآثر في الصمود والقتال. لكن ماذا بعد هذا الصمود، والقتال؟

يتبين دون الكثير من الجهد والعناء، أن المناخ العربي الرسمي، كان لا يريد استمرار المقاومة في لبنان. لذلك تم تجاهل كل البطولات وطمسها الاجتياح. غير أن التيار الذي مثله منير شفيق، لم يكن متشائمًا، وكان مُقتنعًا بأن مسار التسوية سوف يتعطل، ولن يُثمر عن نتائج إيجابية. من هنا حددوا (التيار)، بعد خروج المقاومة من لبنان مسارًا، يمكن رسم أبرز معالمه على النحو الآتي:
- استمرار القتال وتوسيع العمليات ضد جيش الاحتلال.

- استمرار رفض المسار الانشقاقي في حركة فتح، والذي كان من مظاهره "الجديدة"، انشقاقًا باسم حركة "فتح الانتفاضة"، وما تركته من نتائج سلبية. إذ لم يكن لهذا الانشقاق أي مشروع بديل من جهة، وبقيت حركة "فتح الانتفاضة" حبيسة سوريا من جهة ثانية، ودخلت في صراعات مع قيادة فتح، وليس مع الكيان الصهيوني من جهة ثالثة، وتخلت عن أي مواجهة عملية ضد العدو الصهيوني من جهة رابعة.

- أن الانشقاق باسم "فتح الانتفاضة"، وما أعقبه، طالت بشظاياها، تجربة السرية الطلابية (كتيبة الجرمق)، حيث تعرضت، في منطقة البقاع للقصف المباشر من المنشقين، الأمر الذي فرض على السرية الانسحاب إلى الهرمل، ومنها إلى طرابلس، ومنها إلى الشتات.

- أن مجمل حركات الانشقاق، لم تكن من مؤسسي حركة فتح (العشرة الأبرار)، الأمر الذي أبقى مسار العمل الانشقاقي عملًا غير مجدٍ في الوضع "الفتحاوي" والفلسطيني.
وعليه، ضمن هذه الأوضاع المضطربة، على أكثر من صعيد ومستوى، أي اتجاه اعتمده التيار؟.

تجارب واعدة

لم يكن وضع حركة فتح، بعد الخروج من بيروت، مُريحًا. إذ كان المأزق كبيرًا جدًا وقاسيًّا. ففي تونس، مثلًا، كان حشر القيادات والكوادر في "فندق سلوى" على الشاطئ مؤلمًا، وأشبه بالمعتقل. من هنا ركز التيار على الداخل الفلسطيني وعلى العمل في القطاع الغربي، وإطلاق إطار إسلامي جهادي مستقل عن حركة فتح. حيث كان من أركانه وقياداته الأساسيين أبو حسن (محمد بحيص) وحمدي (باسم سلطان التميمي)، اللذان عملا بجد ونشاط منقطع النظير. هذا التوجه لم يؤدِ إلى أي صراع مع القيادة، أو مع من قام بالانشقاق. لأن العمل كان منصبًا على مواجهة العدو الصهيوني، والسعي لتطوير العمل المسلح داخل الأرض المحتلة. لهذا كان للتيار موقفه الايجابي من الثورة الإسلامية في إيران، وهذا كان مُعاكسًا لموقف القيادة، خاصة بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.

إن قراءة طبيعة المرحلة، المستندة إلى تجربة السبعينيات من القرن الماضي، ومتابعة التحولات الدولية والعربية، ومعرفة الوضع في الساحة الفلسطينية، بينت للتيار أن هناك وليدًا يتمثل بالتيار الإسلامي، بدأ بالنمو والظهور. من هنا انطلق العمل لتشكيل خلايا جهادية إسلامية، من خلال التواصل مع الرموز الإسلامية المتجهة لمواجهة العدو. وهذا ما أسفر عن تجميع هذه القوى تحت مسمى "سرايا الجهاد الإسلامي"، كعمل جبهوي تحافظ كل مجموعة فيه على استقلاليتها من جهة، ويتم  الإعلان عن كل عملية ضّد العدو، باسم "سرايا الجهاد".  

غير أن البعض لم يرضَ بهذه الصيغة الجبهوية (الشيخ أسعد بيوض التميمي)، إذ لم يشارك الإخوان المسلمين، كتنظيم، في هذه الصيغة الجبهوية، رغم أنه كان لبعض الأشخاص منهم دور مهم. حيث عمدوا لاحقًا، إلى تشكيل حركة المقاومة الإسلامية، "حماس". كذلك الأمر بالنسبة إلى "الجماعة الإسلامية" التي شكلت لاحقًا "حركة الجهاد الإسلامي".

رغم هذه الأجواء بقيت "سرايا الجهاد"، واستمرت في عملها. كما أصدرت جريدة "السبيل" و"تقدير موقف" باسم "كاشف". لكن استشهاد أبو حسن وحمدي ومروان الكيالي، في قبرص، في عملية للموساد، كان وقعه كارثيًا على التيار. إذ سرعا ما توقفت سرايا الجهاد العام 1991، لأن التيار لم يرغب في تحويلها إلى تنظيم إسلامي ثالث، منافس لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، اللتين دخلتا بقوة هائلة على ميدان الجهاد في فلسطين من جهة، ولأن هدف التيار، الأساس والأول، بإطلاق الجهاد في فلسطين تحقق من جهة ثانية.

بعد توقف السرايا، تسارعت الأحداث فلسطينيًّا، حيث ترك مسار التسوية المتمثل باتفاق أوسلو، تداعيات سلبية كبيرة وخطيرة. لكن التيار كان يؤمن بوجود بارقة أمل، تمثل في إطلاقه مشروع الجهاد الإسلامي في فلسطين، وتصاعد مشروع المقاومة الإسلامية في لبنان

مراجعة مؤلمة

شهدت بداية التسعينيات من القرن الماضي، بعض الأحداث على المستوى الشخصي والسياسي لصاحب المذكرات، أبرزها:

- على المستوى الشخصي: قيام ياسر عرفات بإعفائه من عمله، كمدير لمركز التخطيط في تونس. وهذا القرار كان متوقعًا ومعروفًا وطبيعيًا لتباعد مساحات التلاقي بينهما. من هنا، عمد مباشرة وزوجته، وبسرية تامة، لتأمين انتقال العائلة إلى فرنسا، لوجود ابنه في الجامعة، ولمجانية التعليم الجامعي فيها. وبعد اسبوع استدعاه سفير منظمة التحرير الفلسطينية في تونس (حكم البلعاوي، الذي كان منير شفيق من رشحه لتسلم هذا المنصب، نتيجة لخوفه وارتباكه خلال أحداث الأردن)، حيث تم إبلاغه أن السلطات التونسية تطلب منه، ومن عائلته مغادرة تونس. كما كان موت شقيقته سميرة عام 1992، قاسيًا عليه، فهي تحظى عنده، بالكثير من المحبة والاحترام، وكان دورها مهمًا في مسار حياته.

- على المستوى السياسي: لجوء صدام حسين إلى ضم الكويت إلى العراق بتاريخ 17 كانون الثاني 1991. كان هذا العمل، برأيه، عملًا خاطئًا برمته. لذلك اقترح على ياسر عرفات بأن ينصح صدام بالتراجع فورًا، وتفادي المواجهة. لكن هذا الرأي كان مخالفًا لتوجه عرفات وللموقف العام المهيمن على قيادات الفصائل الفلسطينية. خاصة وأن عرفات  كان مع خطوة صدام من جهة، وهو (عرفات) في الأساس لم يكن يتوقع نشوب حرب ضد العراق، وهذا ما أعلن عنه قبل يوم من بدء الحرب، من جهة ثانية.
يبدو أن الدعم المالي لحركة فتح، كان له دوره في تحديد الموقف من الغزو، خاصة بعد الانتقال إلى تونس. حيث برزت مظاهر التبذير والهدر وعدم ترشيد أو تنظيم الانفاق، دون متابعة أو محاسبة (لا يقصد هنا الفساد الشخصي). إذ اعتمد المال للترويض. وهذا كان مُعاكسًا كليًا، لبدايات حركة فتح، غير أن هذا المنحى تعاظم بعد اتفاق أوسلو، حيث أصبح العديد من الكوادر، مثل "النمور المروضة في السيرك"، حيث أصبح "الراتب" وسيلة ضغط على الكوادر.

- على المستوى الانساني: في الموضوع المادي استخدم الراتب كوسيلة ضغط. ويمكن في هذه المسألة المقارنة، على سبيل المثال، بين عهد ياسر عرفات ومحمود عباس. عرفات، لم يقطع الراتب الأساسي عن أي من معارضيه، في حين أن عباس كان أول ما يفعله مع معارضيه هو قطع راتبه، والضغط عليه برزقه.

- على مستوى المراجعة بعد أوسلو: من الواضح أن عرفات تراجع في النهاية، "رغم أن ما فعله في أوسلو لا يمكن أن يُغتفر". لهذا ساهم مباشرة في تشجيع كتائب الأقصى في العمليات الاستشهادية، كما دعم الانتفاضة والمقاومة بالسلاح، منها مثلًا، الباخرة التي أرسلها إليه حزب الله محمّلة بالصواريخ. لذلك قُتل اغتيالًا، وهو محاصر، بعد أن "رفعت أمريكا وأوروبا وحسني مبارك والسعودية أيديهم عن حمايته"، وبعد أن رفض العرض الذي قدمه رئيس المخابرات المصرية، في رام الله، بـ"ضرورة قبول أن يكون زعيمًا رمزيًا للفلسطينيين، وأن يُسلّم كل صلاحياته لرئيس الوزراء محمود عباس"، وقد أعطاه مهلة شهر، "وإلّا سيواجه مصيره مع شارون". بالمقابل فإن محمود عباس مارس العكس تمامًا، وهو لا يزال يرفض التراجع عن التسوية، أو تشجيع الانتفاضة، ولم يوقف التنسيق مع العدو. كما أنه لا زال يُراكم الفشل ويزيد من التنازل "غارقًا في الخيبة".

- على مستوى العلاقة بفتح: يعتبر صاحب الذكريات أن حركة "فتح تكوين مُعقد جدًا"، فهي حركة جماهيرية شعبية كبيرة، تضم أطيافًا اجتماعية وتيارات كثيرة، ولها آفاق وامتدادات كبيرة. غير أنها دخلت في مرحلة "التدجين"، وتعاظم هذا الأمر، لاحقًا، بالمسارات التي اتخذها كل من اتفاقي مدريد وأسلو. لكن عرفات كان رجلًا شجاعًا جدًا، وحاضرًا باستمرار في الميدان، حيث "جمع الكثير من سمات القيادة".

إن موقف صاحب الذكريات من المسارات التسووية، وإقالته من موقعه في مركز التخطيط، هذا القرار الذي كان ينتظره ويتوقعه، ساهما في تخليصه من الوضع الذي كان فيه. من هنا انتهت الأسباب التي كان يسوّقها "على أن المقاومة ما زالت موجودة في فتح". لأن محاولات إنهاض الحركة، "إذا كان هناك امكانية"، توجب على كل قيادات الصف الأول والثاني الموجودة الآن أن تستريح "إلّا من رحم ربي"، لتأخذ "القيادات الجديدة" موقفًا مُعارضًا للتسوية والعودة إلى منطلقات فتح ومبادئها.

المنطلق الأساس للانطلاق

إن آفاق الحل بالنسبة له، تكمن في وقف مسار التفاوض والتنازل الذي أعقب اتفاق أوسلو. لأن استمرار التمسك بهذا الاتفاق لا يمكن أن يترك، برأيه، أي مجال لتغيير جدي، كون هذا الاتفاق أجهض الانتفاضة والمقاومة في الداخل، وأجهض العمل وخرّب الكوادر. حيث إن العدو ازداد تماديًّا في احتلاله، وعمد إلى التهرب من تنفيذ أي من التزاماته. فالاحتلال ترسّخ والاستيطان تأصل، والعدو أخذ "شرعية وحضورًا"، على المستوى الدولي، و"جعلنا" نخسر التعاطف العالمي، و"فتح باب التطبيع العربي على مصراعيه".  
إضافة لذلك فإن ما قُدم من حجج بأن اتفاق أوسلو "سمح بإدخال 50 ألفًا من كوادر منظمة التحرير الفلسطينية وعائلاتهم إلى الداخل"، كان مردوده سلبيًّا، لأن هؤلاء أدخلوا "معهم الكثير من أمراضهم"، وساهموا في إفساد "تنظيم الداخل".

إن خطأ عرفات، الذي كان قد بدأ يتراجع عنه، توسع في عهد محمود عباس وتعمق، حيث أصبح الاتفاق عائقًا أساسيًا، سواء في تراجع انتفاضة الشعب الفلسطيني، أو ما يهدف إليه في ضرب المقاومة. كما أن الدول العربية أخطأت أيضًا في قمة عام 2002، في بيروت، بطرحها الاستعداد للاعتراف بـ “إسرائيل" مقابل قيام دولة فلسطينية والانسحاب من الجولان ورفض التوطين. وهذا جاء في سياق الأخطاء المتلاحقة في تقدير موقف القوى الدولية وامكانية قبول العدو. بل جاء هذا الاتجاه التنازلي التسووي، دون أن يدرك القائلون به، ومتبعوه أن "الغرب لا يمكن (ولا يريد) أن يضغط على "إسرائيل" إلى مستوى لا تقبله". لذلك فإن مسار التنازلات لا يتوقف، وليس له قاع.

 وعليه فإن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لا يحتاج، برأيه، إلى الاتفاق على البرنامج. أولًا، لأنه من غير الممكن إنجاز أي برنامج بعد اتفاق أوسلو. ثانيًا، لأن المشكلة، ليست "مشكلة برنامج"، كون الاحتلال قائمً. بالمقابل، من هنا فإن الوجه الآخر لهذا الاتجاه يتجسد حيًا في "قطاع غزة قاعدة المقاومة الجبارة". من هنا يجب تعزيز المقاومة في غزة، وتعزيز المقاومة الشبابية العفوية القائمة منذ العام 2015، وإقامة الاتفاق لتعزيز هذا الاتجاه، مع حركة حماس والجهاد الإسلامي. لكن هذا ما لا يريده محمود عباس. من هنا فإن مواجهة الاحتلال والاستيطان هي ما يُنجز الوحدة الوطنية".

في هذه الأوضاع فإن المشروع ـ البرنامج الممكن، من وجهة نظره، يتلخص في طرد الاحتلال وتفكيك المستوطنات، دون قيد أو شرط، والدخول في معركة تدخل فيها الأمة العربية والإسلامية والعالم ضدّ الاحتلال الصهيوني. لأن العدو يهدف إلى "اقتلاع الشعب الفلسطيني والحلول مكانه خطوة بعد خطوة". لذلك فإن بداية الانطلاق تكون بالعودة إلى المربع الأول، المتمثل بميثاقي 1964 و1968.

أهمية الوحدة العربية

بناء عليه يعتبر منير شفيق، أن الوحدة العربية شرط الوجود العربي، والسبيل لتحقيق التحرر والنهضة والتنمية وتحرير فلسطين. وهذه المسألة، كانت من أبرز مواضيع خلافه مع الحزب الشيوعي الأردني. من هنا كان دفاعه، في الصراع الفلسطيني – الفلسطيني، عن "الميثاق القومي" لعام 1964، كونه "متفوقًا على الميثاق الوطني لعام 1968". ضمن هذا التوجه كان الصراع الأشد "ضدّ الإغراق في الفلسطنة، والهوية الضيقة". إضافة إلى أن التركيز على شعار "الممثل الشرعي والوحيد" كان، برأيه، خاطئًا، لأنه أعفى الدول العربية من مسؤولياتها المباشرة عن فلسطين.

من هنا لم يزل يسعى لإقناع الحركات الإسلامية العربية بأن تكون الوحدة العربية في مقدمة أهدافها. لأن هذا لا يتعارض مع الدعوة لوحدة الأمة الإسلامية. وقد أصدر ثلاثة كتب حول الوحدة العربية، فضلًا عن عشرات الكراسات والمقالات والحوارات لترسيخ هذا الاتجاه وتأصيله. وقد تكون هذه الدعوة الوحدوية، ممكنة لمواجهة "التجزئة العربية اللعينة"، والضغوط الدولية. أولًا، لأن التجزئة القائمة هي بمثابة "حكم الاعدام على الأمة العربية"، وعلى دولها القطرية، بحد ذاتها، بغض النطر عن طبيعة الوحدة المنشودة وأشكالها. ثانيًا، لأن الدولة القطرية السائدة "مسرعة للانتقال من حضيض إلى حضيض".

مواقع إدارية

في إطار هذا التوجه وافق، تحت ضغط شديد، أن يكون الأمين العام للمؤتمر القومي ـ الإسلامي. وكان هذا مشابهًا لتورطه بقبول موقع الأمين العام للمؤتمر الشعبي الفلسطيني في الخارج العام 2017. وهو كارهٌ للموقعين، "لا لأن فيهما ما يُعيب، بل أن فيهما ما يُشرّف، ولكنها نقطة ضعف عندي". حيث كان مُتعفّفًا عن المناصب والمواقع. ويشير إلى أن حتى تعينه مديرًا عامًا لمركز التخطيط، جاء "كاختيار بين أهون الشرّين". لأن أبو عمار الذي كان مصممًا على عدم تعيينه، قَبِل تعينه مُكرهًا، بعد مطالبة زهير محسن بالمنصب لمنظمة الصاعقة.

في المؤتمر القومي – الإسلامي تبدو الأزمة، عند البعض، أن الجناحين دخلا في نوع من المجاملات، دون أن يتخلى أي منهما عن آرائه. غير أن الحقيقة، من وجهة نظره، أن الجناحين أصبحا أكثر انفتاحًا. وهذا بحد ذاته، إنجاز كبير. لكن "نقطة الضعف كانت في التعاون بين التيارين القومي والإسلامي على المستوى القطري"، بسبب الصعوبات في التفاهم حول المشكلات التي تخصّ القُطر المعيّن، باستثناء تجربة اليمن. أما القضايا التي تتعلق بالأمة وقضاياها فكان التفاهم كبيرًا. وهذا، برأيه من أمراض التجزئة العربية والدولة القُطرية.  لكن عند اندلاع الثورات العربية 2011،، حصلت أزمة تمت معالجتها "بتجميد" اتخاذ موقف من القضايا الخلافية. من هنا يُفتَرض إعادة النظر بالعلاقة بين التيارين وإعادة الحوار بينهما من جديد.

في الأحوال كافة، يعتبر أن عمله الإداري، سواء في الأمانة العامة للمؤتمر القومي ـ الإسلامي، أو في مركز التخطيط، بيّن أنه لم يكن "صارمًا" حسب المفهوم الغربي، وكما يجب أن يكون المدير. غير أن غياب الصرامة لا يعني "تمييع الوضع"، وهذا عكس ما كان عليه، عندما كان في الحزب الشيوعي، وتخلى عنه لاحقًا. وهذه نقطة يمكن أن تُسجّل عليه لمن أراد ذلك. لكنه نجح في  الأمانة العامة، وبالتعاون مع آخرين، في المحافظة على المؤتمر في مرحلة عصيبة، وجنّبه التصدع، وإن كان ذلك على حساب "تجميد فعاليته".

 

ثقافة

إقرأ المزيد في: قضايا وكتب