طوفان الأقصى
جباليا القلعة الحصينة.. هل تكون الضربة القاضية لنتنياهو؟
لم تكن عملية توغل العدوّ الأخيرة والحالية باتّجاه جباليا ومعسكرها، في شمال قطاع غزّة، العملية الأولى في هذا المسار الذي اتّبعته وحداته في المرحلة الأخيرة أو الثالثة من عدوانه. ويقوم هذا المسار على تنفيذ عمليات خاصة خاطفة وسريعة وبجهود وقوى مختلفة ومتفاوتة، تحددها طبيعة منطقة الهدف والمعطيات الاستعلامية التي استحصل عليها العدو، لناحية قوى المقاومة أو أسلحتها أو مستوى تحصيناتها في هذه المنطقة. فقد نفذ العدوّ عدة عمليات من ضمن هذه المرحلة الثالثة، في مناطق مختلفة، في شمال القطاع أو في وسطه أو في خان يونس، وانسحب منها بخسائر كبيرة أو بخسائر عادية، تبعًا لطبيعة كلّ اشتباك على حِدَةٍ. ولكن، يبدو أن عمليته الحالية في جباليا ستكون مختلفة بالكامل عن كلّ عملياته المماثلة المذكورة، وذلك لناحية حجم الخسائر أو التداعيات والتأثيرات على مجمل عدوانه المفتوح حتّى الآن على قطاع غزّة كله.
لناحية الخسائر:
حتّى الآن، يمكن القول إن خسائر العدوّ في جباليا ومخيمها، وخلال أسبوع تقريبًا من بدء العملية، قد تجاوزت ما خسره خلال المرحلتين الأولى والثانية منها، والتي امتدت لحوالي الخمسة أشهر تقريبًا. والمشاهد المنشورة لإخلاء مصابيه وقتلاه وبيانات الناطق العسكري في جيشه عن الاعتراف الواضح بخسائره تثبت ذلك. علمًا أن اعترافاته بالخسائر لم تكن يومًا صحيحة وكاملة من ناحية الأرقام، وذلك للكثير من الأسباب المعروفة، لكن يبدو أن ضخامتها اليوم أصبحت تمنعه من إخفائها والتستر عليها، ولو بالحد الأدنى.
طبعًا، هناك عدة أسباب وراء هذا العدد الضخم من الخسائر التي يتكبدها العدوّ في جباليا المعسكر وجباليا البلد، ويمكن تحديدها بالآتي:
- يبدو أن المقاومة الفلسطينية في جباليا قد أعدّت معركتها الدفاعية بإتقان، مستندة أساسًا إلى بنية دفاعية قوية سابقة، واجهت عبرها سلسلة طويلة من اعتداءات العدو وعملياته الخاصة. بالإضافة إلى أنها أفادت من تجربتها الأخيرة بمواجهة العدوّ في "طوفان الأقصى"، فكانت مرحلة انكفاء وحداتها عن شمال القطاع نسبيًّا في المرحلة الأخيرة، فرصةً لتعزيز وتنظيم تحصيناتها الدفاعية وتجهيزًا لمناورة الاستهداف التي تنجح عبرها في مواجهة وحدات العدوّ حاليًا.
- في متابعة لطريقة القتال ولمناورة المواجهة التي تنفذها المقاومة حاليًا، في جباليا وفي رفح أيضًا، تظهر بوضوح فعالية أسلوب العمليات المركّبة التي أصبحت عماد معركتها اليوم، والتي تجمع بين إطلاق النار واستدراج العدوّ إلى مبنى يراه الأنسب والأقرب للاحتماء، فإذ به يكون مفخخًا، ومع تفجير التفخيخات، تعالج عناصر المقاومة الهدف بالقذائف المضادة للتحصينات وللأفراد، ولتتابع عناصر المقاومة مناورتها المركبة بتنفيذ كمين محكم ضدّ عناصر العدو التي تهرع لإخلاء المصابين.
والأهم من بين أسباب سقوط خسائر كبيرة للعدو، في عمليته الحالية على جباليا، هو أن وحداته تقاتل مرغمة لتنفيذ قرار سياسي غير متوازن، ومن دون أهداف واضحة ومن دون وجود خطة منظمة ومحدّدة، وبوجود خلافات عميقة بين الجانبين السياسي والعسكري، وحتّى هناك تباين كبير داخل الجانب العسكري نفسه، على خلفيات عدة، منها طريقة إدارة العمليات في مناطق محتمل جدًّا وجود أسرى للعدو فيها، الأمر الذي يسبب ارباكًا وتخبطًا في عملياته، وينعكس في الميدان فشلًا وإصابات قاتلة.
لناحية التداعيات والتأثيرات على مجمل عدوانه المفتوح حتّى الآن على قطاع غزّة بكامله:
في الواقع، وفي متابعة لمسار العملية حاليًا في جباليا وفي معسكرها، لناحية المحاور المتشعبة التي يعتمدها العدوّ في توغله، أو لناحية العقد القتالية التي تواجهه المقاومة منها، لا يبدو أن هناك أفقًا واضحًا للعدو لإنهاء العملية بنجاح. إذ إنّ الأهداف غير واضحة، والتي على أساسها يمكن تحديد موعد إنهاء العملية، وحيث مستوى القدرة القتالية للمقاومة يتصاعد تدريجيًا مع كلّ توغل أعمق للعدو، ومع زيادة التوغلات للعدو وزيادة مساحات انتشار وحداته، تتعقد مناورته أكثر وأكثر، ولتكون النتيجة قتلى ومصابين أكثر وأكثر.
أيضًا، لا يمكن للعدو أن يفصل عمليته في جباليا عن عمليته في رفح، فهناك ارتباط عضوي وقيادي وعملياتي أساسي بين العمليتين، وبقدر ما هو يحتاج إلى قوى ولجهود لمحاولة إنهاء عملية جباليا بأقل قدر ممكن من الخسائر وبتحقيق الرمزي من المكاسب، هو أيضًا يحتاج إلى دفع جهود قوية إذا أراد اكمال مناورته الواسعة في رفح، والتي لا تقل خطورة عملانية عن جباليا، حيث تنجح وحدات المقاومة جنوبًا في رفح، مع مختلف فصائلها التي تنسق أعمالها القتالية بين بعضها البعض بمستوى رائع وفاعل، في تكبيد العدوّ أيضًا خسائر كبيرة، فتعيق تقدمه وتمنعه من السيطرة حتّى الآن على أي مساحة جغرافية حاول التوغل فيها.
في هذا السياق؛ ومع تكامل قتال المقاومة الفلسطينية بين رفح وبين جباليا، وفرض إيقاعها الذي تريده على مناورة العدو بالنار وبالعمليات المركبة الصادمة، ومع حجم الخسائر التي يتكبدها العدوّ في جباليا ومعسكرها وفي رفح، ومع العقم والعجز في تحقيق أي إنجاز عسكري أو ميداني - إلا قتل المدنيين فقط- وبالوقت نفسه مع صعوبة اتّخاذه قرارًا بالانسحاب من أي من العمليتين، في جباليا أو في رفح، وذلك لأسباب عسكرية ومعنوية وسياسية، ومع تعاظم ضغوط جبهات الإسناد اليمينة والعراقية واللبنانية على العدوّ وتأثيراتها الواضحة، يعيش قادة العدوّ اليوم، وخاصة نتنياهو، ورطة الفشل والعجز والهزيمة. ويبدو أن قرار رضوخهم والسير بالتسوية التي ما تزال مطروحة وبموافقة المقاومة الفلسطينية، أصبح أقرب بكثير من قرارهم بمتابعة مسار الانتحار الذي لا يمكن لأي متابع عاقل إلا وأن يكتشفه.