طوفان الأقصى
العسكرة الأميركية بين الهيبة المتداعية والردع المأمول
بقلم د. حسن أحمد حسن
تساؤلات كثيرة فرضت ذاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائط الإعلام المتنوعة بعد إقدام واشنطن على تنفيذ عدوان موصوف وسافر ضدّ دولتين مستقلتين ذات سيادة هما سورية والعراق، فهل الانتقام الأميركي يتطلب استحضار القاذفات الاستراتيجية (B1) من الداخل الأميركي للمشاركة في القصف الذي طال مناطق عدة على جانبي الحدود السورية ــــ العراقية؟ أم أن ذلك يأتي في سياق الجهود الأميركية العبثية لاستعادة هيبة مفقودة جراء زيادة العدوانية الأميركية المنفلتة من كلّ عقال؟
من المهم التوقف هنا عند مسلمات لا يحوز إسقاطها من حسابات مفاصل صنع القرار في جميع المراحل التي تسبق اتّخاذ القرار، وبخاصة عندما يكون الأمر متعلّقا ًبدائرة صنع قرارات استراتيجية، حيث تتسع القطوع وتتعدد في محيط دائرة صنع القرار، ومن المفترض أن يؤدي هذا الأمر إلى ما يتناقض ورفع سقوف التوحش واستعراض العضلات، لأن النتيجة الحتمية المنتظرة محكومة بزيادة سرعة تآكل ما تبقى من عوامل ردع بيد الإدارة الأميركية، وليس العكس، وعادة ما يتم التلويح بالقوّة التدميرية لمنع هذا الطرف أو ذاك من التصعيد خوفًا من الانتقام، لكن عندما يتم انتقال دولة عظمى عالميًا من التهديد ورفع سقف الاحتمالات الممكنة والمتوقعة إلى الواقع الفعلي، واستخدام القوّة بشكل ميداني تصبح المراحل اللاحقة من التهديد بالانتقام خارج إطار الفاعلية والتأثير، ولا سيما عندما يتم استخدام الحد الأعظم من الإمكانيات، وتأتي النتائج متواضعة قياسًا بما تم استخدامه من قوى ووسائط تحتلّ المراتب الأولى في عسكرة لا تقيم للقانون الدولي وزنًا، وتعيش عصر الاطمئنان الخادع أو المتوهم عن إمكانية استعادة الردع والهيبة باستخدام الطاقة التدميرية الهائلة. ولذلك تأتي النتائج بعيدة عن المطلوب والمأمول بآن معًا، ومن الطبيعي أن تتشكّل صورة جديدة عند من وقع عليهم العدوان مفادها أن صاحب القوّة والجبروت العسكري قد ذهب إلى أقصى ما يستطيع فعله، وما نزال قادرين على إيلامه والرد على انتقامه برفع سقف الاستهدافات المباشرة وغير المباشرة، وطالما أن ذلك كذلك فمن الطبيعي أن تكون النتيجة كسر حلقة جديدة مما تبقى في سلسلة الردع المتعارف عليها في طرائق التفكير الإنسانيّ المنطقي والمشروع، والمشكلة البنيوية الكبرى التي تعاني منها الإدارات الأميركية المتعاقبة تكمن في الإرث المتأصل في الذهنية الأميركية التي اعتادت على التعامل مع الآخر كائنًا من يكون هذا الآخر انطلاقًا من حتمية تنفيذ الإرادة الأميركية وكأنها قدر لا مفر منه ولا طاقة لأحد في الكون من الوقوف في وجهه والحد من سرعة اندفاعه بما يرضي عقلية الفوقية والتجبر والغطرسة والهيمنة المعششة في أذهان غالبية المسؤولين الأميركيين بعد عقود من إذعان شبه كوني، وانكفاء القوى الوازنة إقليميًا ودوليًا عن أي تصعيد يزعج ساكن البيت الأبيض وأركان إدارته. وطالما أن النسبة الأكبر ـــ بل الغالبية شبه المطلقة ـــ تتعامل مع واشنطن من وزاوية أنها مجرد مسامير في السفينة الأميركية، فمن الطبيعي ألا ينظر اليانكي الأميركي إلى نفسه إلا على أنه مطرقة مهمتها الأولى الطرق على رؤوس المسامير الناتئة.
الاطمئنان الخادع الذي أشرت إليه قبل قليل طغى على غالبية المسؤولين الأميركيين، وبخاصة بعد تمكّن اليمين الجديد المتصهين من الإمساك بتلافيف صنع القرار الأميركي مع مطلع الألفية الجديدة، وهذا ما أفقد واشنطن أهم عوامل استمرار الهيبة التي هي أوسع وأشمل وأهم من الردع وامتلاك القدرة على فرضه، فالردع بكليته يشكّل أحد عوامل الهيبة وليس العكس، ولضمان فاعلية الهيبة والردع معًا لا بد من الانطلاق من خصوصية مكونات الخارج المستهدف بفرض الهيمنة والردع، إلا أن الإدارات الأميركية لم تأخذ ذلك بالحسبان، وانطلقت من حالة شبه يقينية بأن العالم بغالبيته على الأقل أصبح مسلمًا بالتفوق الأبدي الأميركي، والجميع يخشى إزعاج واشنطن ويتحاشاها اتقاء لأخطار غضبها، وما قد يعنيه من استخدام عوامل الردع التي تفوق الطاقة. إلا أن هذه "المسلّمة" الأميركية ليست دقيقة، وقد ثبت أن العديد من الأطراف الدولية ترفض الانضواء تحت العباءة الأميركية، ومن ضمنها محور المقاومة في منطقة الشرق الأوسط بأطرافه المتعددة، وتتالت حلبات الاشتباك المباشر وغير المباشر، ولم تفلح صقور الإدارات الأميركية المتعاقبة ولا "حمائمها" في ترويض هذا المحور، بل تراكمت أوراق تآكل الهيبة الأميركية إلى أن جاءت ملحمة طوفان الأقصى، وظن أصحاب الرؤوس الحامية أن فرصة تاريخية سانحة لاحت في الأفق لاستعادة الهيبة الأميركية المتداعية، وفرض الردع المتآكل فكان الاصطفاف التام مع كيان الاحتلال الإسرائيلي وإطلاق يده ليعيث قتلًا وتدميرًا وإجرامًا، وضمان الغطاء اللازم لشن حرب إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين بعامة، وضد سكان غزّة بخاصة، مع الإصرار على مصادرة القرار الدولي، واستخدام حق النقض " الفيتو" لتعطيل صدور أي قرار لوقف إنسانيّ لإطلاق النار.
القفزة الثانية في المجهول كانت عبر العدوان الأخير الذي نفذته واشنطن ليل الجمعة وفجر السبت الواقع في 3/2/2024 ضدّ سورية والعراق بذريعة الانتقام ممن استهدفوا قاعدة أميركية في الداخل الأردني مما أسفر عن إصابة أربعين أميركيًا بين قتيل وجريح، وسبق الرد الأميركي حملة من التهديد والتهويل بأن الرد الأميركي حتمي وقريب ورادع، وبعد منتصف ليل السبت 2/2/2024 تم شن عدوان مركب، وقال البنتاغون في بيان له إنّه ضرب "أكثر من 85 هدفًا، من خلال العديد من الطائرات التي تضم قاذفات بعيدة المدى انطلقت من الولايات المتحدة"، ووفق المنطق الأميركي يفترض أن يكون هذا المستوى من الانتقام كفيلًا بردع المقاومة وطلب السماح والمغفرة، لكن الإعلام الأميركي نفسه وبخاصة ذاك الصادر عن البنتاغون أقر بأن القواعد الأميركية تعرضت أربع مرات لاستهداف مباشر بعد استخدام القاذفات الأميركية الاستراتيجية، أي أن الرد الأميركي تلقى ردًا مقاومًا، وكلّ معطيات الواقع ومؤشراته تتّجه نحو بوصلة تصعيد الرد المقاوم وتناسبه طردًا مع الجنون الأميركي الجديد. وبالتزامن مع العدوان الأميركي يتم تداول أخبار متعددة عن إمكانية انسحاب أميركي من سورية، فضلًا عن المحادثات مع الحكومة العراقية بشأن سحب القوات الأميركية من العراق، وهنا يبرز التساؤل العريض المشروع: هل أسفر استخدام القاذفات الاستراتيجية الأميركية عن استعادة القدرة على الردع أم زاد في تآكل ذاك الردع المتوهم، كما انخفضت عتبة الهيبة الأميركية أكثر فأكثر؟
لا شك أن مشاركة القاذفات الاستراتيجية (B1) يطرح العديد من التساؤلات المشروعة: فهل الضرورة الفعلية فرضت ذلك، أم أن الإعلان عن مشاركتها هو جزء من حرب نفسية مفضوحة الأهداف والمرامي؟ ثمّ أليس لدى البنتاغون من القواعد العسكرية العملاقة في المنطقة ما يتضمن أكثر أسلحة الدقة العالية طاقة تدميرية، فلماذا تحمل هذه النفقات الإضافية إذا كان يمكن تحقيق الأهداف من دون القاذفات المذكورة؟ وهل من ضامن أن القواعد الأميركية ستصبح أكثر أمنًا وتحصينًا، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
بعيدًا عن التخمين والتنجيم فمنطلقات التحليل الموضوعي تشير إلى أكثر من هدف يكمن وراء استخدام القاذفات الاستراتيجية في العدوان الأميركي، ويمكن باختصار الإشارة إلى بعضها، ومنها:
• التهويل وتأمين ما يساعد على استعادة القدرة الردعية المفقودة، والنتائج المباشرة جاءت بعكس ما تريد البلطجة الأميركية.
• التغطية على العجز الميداني الإسرائيلي في حرب الإبادة التي يشنها ضدّ قطاع غزّة، وإذا كان الصهيوني بعد انقضاء أربعة أشهر انتقل من الإصرار على تحقيق انتصار ناجز وحاسم ومكتمل المعالم ولا يقبل التأويل، إلى القبول بتسويق صورة عن نصر ممكن، ولاحقًا إلى إخفاء صورة الهزيمة والسعي بكلّ السبل لمنع تعميمها، فالعربدة الأميركية تصب في هذا السياق في التغطية على صورة الهزيمة الإسرائيلية ومنع تظهيرها وتعميمها، وقد تكون نجحت جزئيًا في هذا الأمر.
• محاولة الاستئثار بالاهتمام الأكبر إقليميًا ودوليًا بما تنفذه العسكرة الأميركية لتخفيف الأضواء المسلطة على جرائم الكيان الصهيوني التي ترتكب على مدار الساعة في غزّة، أي منح "تل أبيب" مهلة إضافية للإمعان أكثر في حرب الإبادة الجماعية التي تنفذها بمباركة واشنطن، وهنا يمكن القول: إن واشنطن لم تفشل في السير على طريق تحقيق هذا الهدف الإجرامي.
• لا يخلو الأمر من رسائل مبطنة للقوى الساعية لإشغال مقعد القطب المكافئ، أي روسيا والصين، والتشديد على أن واشنطن جاهزة للذهاب أبعد مما يخطر على الذهن عندما تصل الأمور إلى حد تحدي الإرادة الأميركية، وهذا الأمر انتهى أيضًا إلى نتيجة عكسية بعد طلب موسكو عقد جلسة خاصة في مجلس الأمن لهذا الوضع المستجد، وما يمثله السلوك الأميركي من انتهاك للقانون الدولي وتهديد للأمن والاستقرار إقليميًا ودوليا...
هناك أهداف أخرى قد لا يتسع الحديث عنها في مقال تحليلي، لكن المعطيات والقرائن الدالة بغالبيتها تشير إلى أن الردع الأميركي ازدادت تآكلًا، والهيمنة الأميركية المأمولة ازدادت هشاشة، ولعلّ قادمات الأيام وما تسفر عنه جبهات الميدان المشتعلة تحمل في طياتها الكثير مما يمكن قوله وتحليل تداعياته.