طوفان الأقصى
"إسرائيل" مستمرة في المواجهة.. ما هي حساباتها؟
شارل أبي نادر
في الوقت الذي تتزاحم وتتسابق فيه المحاولات الغربية والإقليمية لإيجاد تسوية أو حل للحرب الدائرة حاليًا في غزة، والتي ارتبطت بها بشكل مباشر ثلاث مواجهات على شفير التحول الى حروب أيضًا بما للكلمة من معنى- الأولى في جنوب لبنان وشمال فلسطين، والثانية في المياه الدولية والإقليمية المتاخمة لليمن والبحر الأحمر وخليج عدن، والثالثة على الأراضي العراقية والسورية- يثبت أطراف الحرب في غزة على مواقفهم وشروطهم، وتبقى فعليًا هذه المحاولات بعيدة عن تحقيق حل معين أو صفقة ما، للخروج من هذا الوضع المعقد والذي بدأت تؤشر تداعيات استمراره إلى احتمال نشوب مواجهة واسعة قد تطال منطقة الشرق الأوسط كلها.
عمليًا، مع طوفان الأقصى وبعده، وجدت "إسرائيل" نفسها في وضع استثنائي لم تكن تنتظر حدوثه بتاتًا، وربما كانت شبه متأكدة بأنه لن يحصل ما يشبهه في المستقبل، حيث نفذت وحدات حماس داخل مناطق غلاف غزة عملية اختراق تاريخية، استهدفت بداية فرقة غلاف غزة وأصابت منها مقتلًا، ونتج عن العملية سقوط الآف الإسرائيليين بين قتلى ومصابين، مع نجاح حماس في أسر المئات أيضًا من المستوطنين والعسكريين.
أيضًا من جهة أخرى، تخسر "إسرائيل" في هذه الحرب وخاصة في غزة وعلى جبهتها الشمالية مع لبنان، الكثير من جنودها وعتادها وقدراتها العسكرية، وحيث ضربت معنوياتها وأصيبت في غطرستها المعهودة، أصبحت مع هذه المواجهات ضعيفة وضائعة وخائفة على مصيرها وعلى وجودها كيانًا محتلًا بشكل كامل. ولكن، يبدو من جهة أخرى، أن "إسرائيل" لا تقوم بما يلزم لوقف هذه الحرب، وبالرغم من الفرص المتعددة التي تحضّرها أو تخلقها لها واشنطن وإدارة البيت الأبيض، تعاند في قبولها النقاط المناسبة والمطروحة للتسوية، وتتجاهل كل مسارات الانهيار والانحدار التي تسير فيها.
فما هي الأسباب التي تجعل "إسرائيل" تعيش هذا الإنكار للواقع؟ ولماذا تسعى لعرقلة كل مشاريع الحلول وتختار الاستمرار في هذه المواجهة القاتلة لجيشها ولمستوطنيها في جنوب الكيان وشماله؟
* في غزة:
تعمل "إسرائيل" على إطالة أمد الحرب قدر الإمكان من دون أن تقطع مسار التفاوض حول تحرير أسراها، وتوحي أنها تهتم لتحرير هؤلاء من خلال اجتماع قادتها مع أهاليهم بشكل دوري، ولكن عمليًا، تهاجم كل مناطق غزة بشراسة مع إحداث تدمير غير مسبوق، من دون أن تحتاط أو تأخذ بالحسبان أي احتمال بأن يكون الأسرى فيها.
في الواقع، تجد حكومة العدو في مناورة إطالة أمد الحرب وإبقاء خطوط البحث حول تبادل الأسرى مفتوحة، عملية استنزاف للمقاومة بعناصرها وقدراتها وأسلحتها وذخيرتها، فيومًا بعد يوم، ومن خلال المواجهات المباشرة وعمليات الاستطلاع بالنار، تحصل على معلومات ولو بسيطة عن بنية المقاومة العسكرية، تراكمها فوق بعضها وتستغلها لتدمير ما يظهر أمامها من أنفاق، وللإجهاز على أكبر عدد ممكن من عناصر المقاومة.
من جهة أخرى، وبغياب أي حسيب أو رقيب اقليمي أو دولي، وخاصة مع تخلٍ كامل لكل مؤسسات القانون الدولي عن دوره ومهامه وواجباته، تقتل "إسرائيل" من تريد من المدنيين ومن المقاومين، وتدمر غزة وأحياءها وشوارعها ومنشآتها، بأكبر قدر ممكن تسمح لها احتياطاتها من المتفجرات والصواريخ الضخمة وشديدة الفعالية، وذلك بغطاء ومبرر استمرار توقيف المقاومة الفلسطينية لأسراها، وكأنها تعدّ هذا التوقيف غطاء لا تريد التخلي عنه إلى أبعد مدة ممكنة.
أيضًا، ولأسباب شخصية خاصة جنائية وقضائية وسياسية، يعمل نتنياهو بكل قوته وحنكته السياسية الخبيثة، على استمرار الحرب، فهو ضمنيًا لا يريد تحرير الأسرى وخاصة العسكريين، والذين يعدّهم مسؤولين عن هذه الورطة بتقاعسهم عن منع اختراق غلاف غزة والوصول بالكيان إلى ما وصل اليه، وأساسًا، كان يعيش حربًا ضروسًا مع العسكريين على خلفيات متعددة، وبمجرّد توقف الحرب، سوف تُفتح أبواب الجحيم عليهم قضائيًا وجنائيًا وسياسيًا.
* في لبنان:
أيضًا؛ الأسباب الخاصة نفسها بنتياهو وتفضيله استمرار الحرب، تهيمن على قراره حول هذه الجبهة، وبمجرد أنه يتهرب من إيقاف الحرب على غزة، يكون بذلك قد أبقى المواجهة على الجبهة اللبنانية مفتوحة.
مع لبنان، ومن الناحية العسكرية، تتأقلم "إسرائيل" مع شكل هذه المواجهة مع حزب الله، بالرغم من الخسائر التي تدفعها على المستويات كافة، بين جنودها أو في آلياتها أو في تدمير كامل بنيتها الدفاعية العسكرية. وفيما تستكمل الحرب على غزة، تدرك أن الحرب مع لبنان لن تتوقف بشكل مستقل عن غزة، وتعمل على استغلال هذه المواجهة في استنزاف حزب الله أيضًا، في عناصره وفي قدراته، وترى في كل خسارة ولو بسيطة لحزب الله وفي المجالات كافة ربحًا ومكسبًا، لن تستطيع تحقيقه فيما لو كانت المواجهة مع لبنان أوسع، أو فيما لو كانت خارج هذه المواجهة الحالية، والمقيّدة بخطوط وظروف استثنائية، والأمر الحساس الذي تعمل جاهدة عليه في هذه المواجهة مع لبنان، هو أن لا تتطور وتتوسع، حيث ستكون حينها لمصلحة حزب الله.
ومع هذه المناورة الدقيقة في استمرار الاشتباك مع حزب الله وعلى هذا المستوى المقيّد، تسعى "إسرائيل" يوميًا ولو بنسبة غير كبيرة إلى تدمير ما أمكنها من نقاط وبنى تحتية وقتالية ولوجستية لحزب الله، وتتعرّف ولو بحد غير واسع، إلى بعض الأسلحة النوعية التي يكشف عنها حزب الله نتيجة ظروف الميدان.
ربما تكون هذه الأسباب في سعي "إسرائيل" لاستمرار الحرب مع غزة ولبنان مناسبة لها استنادًا لما ذكر أعلاه، لكن، ما قد يفوت "إسرائيل" ويتجاوز مناوراتها هذه ومخططاتها، أنها ستصل إلى مرحلة من الانهيار الداخلي، لن تعود تنفع معها أية مكاسب عسكرية وميدانية، بعد أن فقد كل مستوطنيها الثقة بقدرة سلطتها-أية سلطة كانت- على حمايتهم، بعد أن فقد هؤلاء كذلك الحافز الفعلي الذي يجعلهم يقتنعون بالعيش على أرض يحتلونها غصبًا، وأصحابها الحقيقيون يملكون من العزم والإيمان والقوة والصبر ما لا يمكن مواجهته والتغلب عليه، ولو اجتمع العالم كله ضدهم.