طوفان الأقصى
أطفال غزّة: علِّمونا البطولة!
د. شوكت آشتي
يُمثّل أطفال قطاع غزّة ظاهرة غير مألوفة في المواجهة والصمود، بوجه حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني هذه الأيام، إثر عملية طوفان الأقصى، 7/10/2023، الأمر الذي جعلهم أنموذجًا "خياليًّا"، في المقدرة على التحّمل وظاهرة فريدة في مسار نمو الأطفال، مقارنة بأقرانهم في العالم. لدرجة يمكن القول، مع الشاعر، في توصيف هؤلاء الأطفال: "قد صغرنا أمامكمْ، ألفَ قرن، وكبرتُمْ، خلالَ شهرٍ قرونا". من هنا يمكن التساؤل: هل هؤلاء الأطفال أبطال بكلّ ما تتضمنه الكلمة من معانٍ ودلالات؟ أم أنهم قدموا ظاهرة جديدة في معنى البطولة؟ وما أثر البيئة الحاضنة في تشكيل نموذج البطولة لديهم؟ هل يمكن الحديث عن بطولة جماعية، بالتوازي مع ظاهرة البطولة التي تتصف، مبدئيًا، بالفردية؟
تجذر فكرة البطولة
فكرة البطل قديمة جدًّا في الاجتماع البشري، إذ تتضمن الثقافات على تنوعها العديد من الروايات والقصص والأساطير التي تُمجّد أعمال الأبطال، وتروي أخبارهم بفخر واعتزاز، ما يجعل فكرة البطل مسألة طبيعية في الحياة الاجتماعية، وترافق مراحل النموّ المختلفة من حياتنا، صغارًا وكبارًا.
وبالرغم من تنوع أشكال البطولة، غير أن المشترك بينها يُركز على ما يمتلكه البطل من قدرات "خارقة"، وإمكانات غير "مُحددة" وقوة كبيرة، ويقوم بأعمال خارج المألوف تؤثر إيجابيًّا في المجتمع وحياة أبنائه. وعليه؛ فإنّ المجموعات، على اختلافها وتنوع حجمها، تنقل للأجيال الطالعة قصص أبطالها، وتذكر مآثرهم، وتُظهر أهمية أعمالهم، وتروي بفخر فضائلهم، وتُبيّن باعتزاز للأجيال الطالعة دور هؤلاء الأبطال في بقاء المجموعة/الجماعة واستمرارها.
الطابع الفردي
من هنا يمكن القول، من حيث المبدأ، إن البطولة ظاهرة فردية ترتبط بشخص مُحدد في الغالب دون غيره. ومع أن البطل لا يستطيع عمليًا تحقيق ما يسعى إليه من دون مساعدة الآخرين ومساندتهم، أو تعاون مجموعة من الأفراد معه، بطرائق مختلفة، إلّا أنّ هذه المجموعة تُمجد الشخص المُحدّد، وتعترف بريادته، وتقر بفضله، وتشير إلى تفوقه وتمايزه.. ما يُكرّس الخصيصة الفردية للبطل.
لذلك؛ ظاهرة البطل تؤكد أنه رمز الشجاعة والعنفوان والإقدام والتضحية...، في سبيل تحقيق هدفه المتمثل في مصلحة الجماعة التي ينتمي إليها. من هنا، بالتحديد، قد يكون من الصعوبة منهجيًّا وصف أطفال غزّة بالأبطال؛ غير أن هؤلاء الأطفال هم في المقابل يُمثلون حالًا محددة من البطولة غير الفردية، ويمتلكون سماتها الرئيسة، سواء على مستوى الشجاعة أم المقدرة على التحمّل أم قوة التحدي أم عظمة المواجهة أم عنفوان الجراءة والإقدام. كيف؟ ولماذا؟
ظاهرة متميّزة
لقد عمدت وسائل الإعلام، في مسار التطور التقني وانتشار التلفاز في منتصف القرن الماضي، إلى تقديم نماذج لأشخاص/أبطال ليكونوا قدوة للصغار، يتماثلون معهم، ويطمحون لبلوغ مستوياتهم في الشجاعة والقيام بالأعمال المميزة. ولعلّ من أبرز هذه النماذج، على سبيل المثال لا الحصر، "سوبرمان، باتمان، سبايدرمان.." حيث اتسمت هذه الشخصيات البطولية بقدرات تفوق التخيل، فبدت كائنات استثنائية، تسعى للمساعدة وتلبية النداء للخدمة والتضحية في سبيل الغير. لكن هذه الشخصيات هي خارج الواقع الموضوعي، كونها مخلوقات من صنع الخيال ومحصورة في شاشة التلفاز، وغير متجسدة في الحياة اليومية. فـ"سوبرمان" مثلًا، رجل من كوكب آخر، ومن طينة غير بشرية، لا يخترقه الرصاص، ولا القنابل والمتفجرات، وعيناه تقدحان نارًا، وجسده يتحمّل ما لا يمكن لأي كائن بشري على وجه الأرض تحمّله، وهو قادر على الطيران والانتقال بلحظات من مكان لآخر مهما كان بعيدًا، الأمر الذي حوّله إلى نموذج غير سويّ بالنسبة إلى العديد من الأطفال الذين حاولوا تقليده في الطيران واختراق الحواجز.
في المقابل؛ فإنّ أطفال قطاع غزّة يعيشون في الواقع الحي، بكلّ حمولاته السلبية وقسوته، وبكل تداعياته المؤلمة والفظيعة؛ أي لا يعيشون في الخيال والتصورات الذهنية لعالم "مثالي" و"طبيعي"، بل إن معاناتهم التي فرضها الاحتلال هي خارج المألوف، وواقع معيشتهم خلال حرب الإبادة التي يتعرضون لها هو غير المنطقي وغير المقبول بكلّ المقاييس الإنسانيّة والأخلاقية والقانونية... لذلك؛ فإنّ النماذج التلفزيونية ليست مثالًا للاقتداء بها، أو تقليدها أو قبول التماثل معها.
البيئة الحاضنة
إن متابعة الأعمال البطولية التي يقوم بها المقاومون، في قطاع غزّة- من كتائب الشهيد عزّ الدّين القسّام وسرايا القدس وبقية الفصائل الفلسطينية- بوجه العدوّ الصهيوني، هم بحق أبطال بكلّ معنى الكلمة. إنّهم يواجهون جيش الاحتلال الصهيوني والقوى العالمية الغربية الداعمة له، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية، الأمر الذي حوّل هؤلاء الأبطال إلى رموز حيّة، يعرفها أطفال غزّة، ويعيشون معها، ويعرفون العديد منهم، ما جعل هؤلاء المقاومين نماذج يمكن التماثل معها وتقليدها.
إن الخصيصة المميزة لهؤلاء الأبطال المقاومين اليوم، أنّهم أنفسهم كانوا الأطفال الذين عاشوا ظروف حصار غزّة من العام 2004، وعرفوا شتّى أنواع الحروب التدميرية المتتالية التي شنها العدوّ الصهيوني على القطاع في الأعوام: 2008، 2012، 2014، 2018، 2022. بمعنى آخر، كان أبطال المقاومة أطفالًا لسنوات قليلة مضت، كما هم أطفال غزّة اليوم في هذه الحرب التدميرية، وترعرعوا في البيئة المجتمعية ذاتها، بكلّ ما تعرضت له من ويلات، من موت وحصار وتدمير وقطع الإمدادات الأساسية لاستمرار الحياة وقصف، وتدمير...
عوامل البطولة
استنادًا إلى ما نشاهده عن أطفال قطاع غزّة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، من مقدرة على الصمود والتصدي والثبات، يمكن القول إنهم يُمثلون حالًا من البطولة غير المسبوقة في تاريخنا العربي وظاهرة رائدة في التجارب العالمية. وقد ساعد على تجسيد هذه المظاهر/الخصائص البطولية جملة من المعطيات والتصورات الحسية المتداخلة والمترابطة، لعلّ من أبرزها: وقائع الحياة التي يمرون بها. فأطفال القطاع لا يسألون، في الغالب، عن كيفية الخروج من الأوضاع المأساوية التي يعيشونها، لأنّ الطريق بالنسبة إليهم واضحة جدًا، ومتمثلة بالإيمان بالله أولًا ودحر الاحتلال من خلال ما يقوم به أبطال المقاومة ثانيًا.
لذلك؛ فإنّ أطفال القطاع يرون أن المقاومة والصمود هما المدخل للخلاص والتحرر وتحرير الأرض وهزيمة الاحتلال الصهيوني. وبالتالي هم يتماثلون مع أبطال المقاومة، كما تماثل هؤلاء مع صمود الآباء والأخوة والأقارب والجيران، الأمر الذي يؤكد أن البطولة مجتمعيًّا، هي منظومة قيم، تنمو موضوعيًّا في التربية الأسرية، وتتجسد سلوكًا في الحياة اليومية، وتتبلور عمليًّا في علاقات الناس وتواصلهم اليومي. من هنا تغدو البيئة المقاومة قدوة، وتصبح أخبار أبطال المقاومة مسموعة ومعروفة، لأنّ هؤلاء الأبطال هم جزء من الحياة اليومية.
من هنا؛ فالأبطال بالنسبة إلى أطفال غزّة ليسوا أبطالًا خرافيين، وليسوا من عالم آخر غير معروف، وأخبارهم ليست مرويات من الأساطير وحكايات الجدّات، وأعمالهم غير مُفبركة في الأفلام على شاشات التلفزة، ويمكن القول إن الطفولة في غزّة وقطاعها حال بطولية بامتياز، وهذا كله لا ينسينا للحظة عمق المعاناة والألم والدمار الذي يعيشه هؤلاء الأبطال.