طوفان الأقصى
لقاء خاص مع قائد ميداني في المقاومة.. ويقين بالنصر
يونس عودة
ليس من السهل أبدًا وفي ذروة الإشتباك على الجبهة الجنوبية مع العدو الصهيوني إسنادًا للشعب الفلسطيني واستزافًا لقدرات العدو العسكرية والاقتصادية، ووضعه في زاوية سياسية حادة متخبطًا يتنازعه الارباك، أن تكون حضوريًا مع أحد قادة الجبهة في وسط الميدان ويترسخ يقينك بأن ختام الحرب لن يكون في صالح عدو امتهن الجريمة على كل الصعد، بلا أخلاق عسكرية تعكس طبيعة إنشاء الكيان على أرض فلسطين، مع محاولات فرض وقائع مذلة على العرب الغارقين في التكيّف مع العدو وأعماله الشريرة.
انتقلنا إلى الجنوب بلا تعقيدات سوى المحافظة على سرّية الحركة صونًا لأمن وحياة مجموعة صغيرة اختيرت من ذوي المعرفة في العمل العسكري الأكاديمي، وبعضهم يحوز تجربة ميدانية أكان في الحروب الكلاسيكية أو في حرب العصابات. يصل الجميع إلى نقطة قريبة من شاطئ له ميزات تاريخية منذ مئات لا بل آلاف السنين في الصمود والتحدي لغزاة تمرغت أنوفهم على رماله واندحروا، كما شهد انطلاقة فتوحات اتجاه شمال افريقيا وصلت إلى تخوم مركز الامبراطورية اللئيمة في قلب أوروبا حينذاك.
قبل أن يستحوذ عليك التاريخ، يصل رسول عالي التهذيب لمواكبة المجموعة الصغيرة (وأجرؤ على القول المجموعة المحظية) إلى مكان لا يتخيل المرء أن يكون أبدًا في هذه الدقة من التنظيم والأمان، مع ترحيب ودود من كل فرد من الأفراد أصحاب المباسم المانحة للثقة والطمأنينة.
ذابت كل السيناريوهات المتخيّلة التي راودت الرؤوس في الطريق الى المكان المقصود على تخوم الجبهة لحظة دخول القاعة الرحبة بشغف اللقاء مع القائد الميداني، وهو منتصب القامة بلباس الميدان، مستقبلًا كالطود الشامخ المتواضع بانحناءة السنبلة، واضعًا يده مسلمًا على الزوار فردًا فردًا وكأنه على معرفة بكل واحد من الثلة. وإلى جانبه شاب بهندام أنيق متناسق لا يحتاج المرء كثيرًا ليدرك أنه يحوز على مدارك فنية وهندسية ليس من الدراسة فقط، وإنما من الميدان مباشرة.
بعد دقائق من استراحة الطريق وضيافة "أهلًا في العرين الرحب" ينتقل الجميع إلى طاولة مجهزة للتحدث والشرح اللوحي الالكتروني.
الشرح التقني صاحبته صور وثّقها المقاومون في الميدان، ربما من مسافة صفر، بحيث تظهر الأرقام والتصنيفات لأجهزة الرصد والتصوير والتجسس ونوع كل جهاز ورادار، ومدى عمله وقدرته والشركات المصنعة، وهي الأعتى في المجال، بحيث لا تبقى لديك أسئلة استفسارية سوى الجرأة في أن تطلب اسم كل جندي صهيوني ودوام عمله وحتى صورته وهو داخل الدشم المحصنة، والتي تناثر تسليحها بفعل الضربات الصاروخية الدقيقة وحسب الحاجة.
يمنح الشاب الأنيق بكلماته المعرفية الصارمة المستمعين بشغف المعرفة الثقة العارمة من خلال الشرح المسهب، وهو ما يدفع البعض إلى المقاطعة للاستزادة أحيانًا، وللاستعراض المعرفي حينًا آخر، ليكون تقديم المعلومة مفصلا ودقيقًا عن كل موقع من مواقع الاحتلال على طول الجبهة اللبنانية الممتدة من الناقورة، حيث يقابلها موقع "جل العلام" الأكثر تسليحًا بأحدث تجهيزات التنصت والمراقبة والتشويش والرادارات التي تصل قدراتها العملانية الى دول عربية واقليمية، إلى العرقوب حيث موقع زبدين هو الأهم على مرتفعات جبل الشيخ، وكلها تحولت إلى عمياء كليًا، أو على الأقل بنسبة 95 بالمئة مع صعوبة بالغة في الترميم، لأن العين ترصد واليد تدمر كل محاولة في هذا المجال، والعقول تعمل على مدار الوقت حيث لا تنام العيون بينما الآخرون في الوطن يغرقون في سبات الرهان البخس كما عرب لا يألمون لما يتحمله الشعب الفلسطيني.
لقد تمكن رجال المقاومة الذين علمتهم التجارب من ضرب دقيق للبدائل التي لجأ إليها العدو، ومنعوا إعادة التوصيل والتجديد للمنظومات الرصدية بنكهة ميدانية عززتها تجربة التقييم اليومي لكل ضربة لأي موقع من مواقع الاستهداف، حتى وصلت إلى النسقات خلف الحدود بأعماق متعددة. والقدرة على التأقلم مع موجبات المعركة من الشهداء الذين عرفوا مسبقًا طريقهم وحجم الانجازات المتحققة بشهاداتهم المباركة.
يشرح القائد الميداني الذي عركته تجارب الحروب على أشكالها وفي ساحات الاشتباك المختلفة، عن عمل جيش الاحتلال في الجهة المقابلة من الحدود والامكانات البشرية واللوجستية والتبديلات التي يلجأ إليها مع كل تطور أو حدث ما، ويسمي أسماء ألوية فرقة الجليل والكتائب الملحقة، وعمل الاستخبارات وساعة التعديل العملاني، وعمل كل كتيبة بدقة متناهية نتيجة الجهد الاستعلامي للمقاومة، وكأن عينيه داخل قاعة قيادة الأركان الاسرائيلية.
لا يتردد القائد الميداني بالبوح بأن جيش العدو الاسرائيلي في حركة مستمرة لكن القدرة على التكييف العملياتي بالنسبة للمقاومة يجعل يدها الطولى في المعركة، لا سيما مقدراتها على استيعاب العبر بسرعة، وقد كانت لعملية طوفان الأقصى إلهاماتها المنيرة.
يقول القائد الميداني الصبور على بعض الأسئلة إن المقاومة تتعاطى مع الجغرافيا والمنطق، ولديها يقين من خلال الوضع الميداني والمراقبة اللصيقة، أن العدو في وضع دفاعي وكل حركته الميدانية، رغم توسيعه أحيانًا دائرة النار باعتباره المنطقة كلها منطقة عسكرية وكل حركة بمثابة الهدف، لكنه يدرك أنها لم تستخدم من قدراتها العسكرية شيئًا يذكر، حتى من صاروخ البركان الذي استخدمت من أجياله الجيلين الأدنى، فما بال العدو بالجيليين الآخرين، إذا لم نتحدث عن أنواع وطرازات أخرى لم تظهر في الميدان أبدًا، فـ"كله في أوانه" بحسب القائد و"نحن لسنا حتى الآن في المواجهة الواسعة ولا نريد أن نظهر تكتيكاتنا وقد عالجنا ما يجب معالجته من الحماسة والسرعة واستنساب الدقة، ونحن نقوم بالدرس والتقييم والاجراءات بما يتناسب مع الميدان والرد المتناسب ويدنا لا تزال هي الأعلى".
أكثر من ساعتين من الشرح تجعل المستمع أكثر رسوخًا ويقينًا بالنصر الآتي على أجنحة شهداء لم نعرفهم، لكننا عرفنا أحد قادتهم الذي يلوذ بكلمات سيد المقاومة اليقينية بالنصر الحتمي.