طوفان الأقصى
قيود أمام خياراته العسكرية.. العدو يعوّض عن أدائه المتعثّر جنوباً بالتهويل
علي عبادي
تصاعدت خلال الأيام القليلة الماضية لهجة التهديدات الصهيونية التي تطال لبنان، بينما يمضي العدو في حربه الدموية ضد الشعب الفلسطيني الذي يسطّر صموداً تاريخياً أمام الإبادة الجارية على مدار الوقت.
وتزامنت هذه التهديدات مع ملامسة غارات العدو أطراف قرى بعيدة نسبياً عن خط التماس، مثل كونين أو بيت ياحون في قضاء بنت جبيل أو الشعيتية في قضاء صور، الأمر الذي طرح تساؤلاً حول ما إذا كانت التطورات تسير في خط تصاعدي بالتزامن مع الحرب في غزة، أو بالتعاقب معها في حال تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة في غضون الأسابيع المقبلة. وذهب بعض المحللين إلى التكهن بأن العدو قد يستغل الموقف المشدود في المنطقة ووجود الأساطيل الأميركية والدعم الأميركي غير المحدود له من أجل شن حرب على لبنان وإنهاء المقاومة في فلسطين ولبنان دفعة واحدة. فهذه فرصة قد لا تتكرر بالنسبة للعدو، من وجهة نظر هؤلاء.
بدايةً، لا بد من وضع تهديد نتنياهو وقادة حربه بـ "تحويل بيروت وجنوب لبنان إلى غزة وخان يونس إذا اختار حزب الله أن يبدأ حربا شاملة"، في سياق مؤشرات عدة:
- من المؤكد أن خطاب التهديد موجَّه في جزء كبير منه إلى الداخل الإسرائيلي، ولا سيما إلى جمهور المستوطنين في شمالي فلسطين المحتلة الذين يعبّرون عن تبرّمهم من استمرار نزوحهم عن مستوطناتهم منذ نحو شهرين، فضلاً عن تمادي حالة العسكرة القائمة في هذه المستوطنات التي تحولت بيوتها إلى مراكز عسكرية يختبئ فيها جنود الاحتلال بعد انكشاف عدد من مواقعهم على الحدود أمام ضربات المقاومة اليومية. واستطراداً، يشعر الكثير من المستوطنين كما لو أن حكومتهم نسيتهم في غمرة الحرب على غزة التي دخلت شهرها الثالث بدون أفق واضح، وهي لم تقدم أية حلول عسكرية في ضوء الوضع غير الآمن في المناطق الشمالية، وتركت المستقبل مبهماً بشكل دفع العديد منهم للتعبير عن الرغبة في مغادرة هذه المنطقة بصورة نهائية.
- من الواضح أن لغة التهديد هي بمثابة تعويض عن ضيق الخيارات العسكرية، وهذه هي السيرة التاريخية لقادة الاحتلال في التعامل مع المقاومة. ويلاحَظ في هذا الإطار أن جيش الاحتلال لا يزال يتقيد إلى حد كبير بقواعد الاشتباك مع المقاومة، ما كان قائماً منها وما استجدّ بفعل الوضع الراهن، وهو يدرك الأثمان المترتبة على أي تهور في اتجاه لبنان. ولذلك، فإن كل تجاوز لهذه القواعد تردّ عليه المقاومة بالمثل في مواقع العدو الخلفية ومخابئ جنوده داخل المستوطنات، مما يسهم في ضبط ردوده وتكبيل يديه، وهو الذي خرج عن طوره في قطاع غزة وكسر كل المحرمات.
- كما أن هذا الخطاب التهديدي يراد منه شن حرب نفسية على جمهور المقاومة عبر إسقاط صورة الدمار الذي أحدثه العدوان في غزة على لبنان. وقد يعتقد العدو أن ذلك قد يشكل أداة ضغط غير مباشرة على المقاومة من خلال تخويف شعبها.
- يتضح من تصريحات عدد من المسؤولين الصهاينة أن لديهم رهاناً، عبر مزيج من التصعيد المحدود والتهديد المتكرر الموجَّه إلى لبنان، على تحريك عدد من الدول الفاعلة مثل الولايات المتحدة وفرنسا من أجل الضغط على لبنان لدفع المقاومة إلى الابتعاد عن الحدود على أمل بث الطمأنينة في نفوس المستوطنين وإعادتهم الى المناطق التي هجروها. ولا بأس لديهم أن يتم ذلك عبر توفير "حوافز" للبنان عبر البحث في إخلاء القسم اللبناني المحتل من قرية الغجر وربما مزارع شبعا وكفرشوبا (لا يزال هذا التصور غير رسمي).
غير أن هناك ما يدفع إلى الاعتقاد بأن التصعيد العسكري الصهيوني في اتجاه لبنان ليس وارداً بالحجم الذي يصوّره قادة العدو، وذلك للأسباب الآتية:
- سيكون من الصعوبة بمكان أن يلجأ العدو إلى شن حرب على لبنان بالتزامن أو بعد الانتهاء من العدوان على غزة. فالحرب في غزة طالت، وأي حرب أخرى ضد لبنان قد لا تنتهي بسرعة، وبالتالي فهي غير مضمونة العواقب والمدى. في السابق، كان المانع الأكبر لشن العدو حرباً على لبنان بعد العام 2006 عدم وجود أي ضمانة لكسب الحرب، بالرغم من كل التهديدات التي كان يوجهها بذريعة وجود الصواريخ الدقيقة أو غيرها. واليوم، لا يبدو أن هذا التقدير قد تغير، مع ملاحظة تعثر جيش الاحتلال في المواجهة على الحدود الشمالية، وأيضاً في حرب غزة بالرغم من كل التدمير الهمجي الذي يقوم به.
- يعاني الاقتصاد الصهيوني من خسائر متراكمة بسبب العدوان على غزة، وأي حرب على جبهة أخرى ستزيد هذه الخسائر بشكل متسارع، نظراً لأكلافها المباشرة وغير المباشرة، مع ملاحظة ما تتمتع به المقاومة في لبنان من قدرات نوعية تهدد مرافق العدو الاقتصادية في حالة وقوع حرب كبرى. واضطرت حكومة العدو إلى إلغاء نفقات وزارات عدة لتوفير تكاليف الحرب على غزة (بالرغم من تلقيه مساعدات أميركية طارئة عسكرية واقتصادية بقيمة 14 مليار دولار)، وهذا الوضع سيزداد تفاقماً إذا توسع نطاق الحرب على الجبهة الشمالية.
- ستواجه الجبهة الداخلية في كيان العدو تحديات كبرى في حال توسيع الحرب مع لبنان. وأصيبت هذه الجبهة بأضرار جسيمة في حرب 2006، وستكون هذه الأضرار مضاعفة بوجود الصواريخ الدقيقة التي يمكنها ضرب محطات الطاقة ومرافق حيوية أخرى.
- يستهلك العدو طاقته البشرية بسرعة بعد استدعاء نحو 350 ألفاً من جنود الاحتياط في أعقاب عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي. وليس في وسعه الاستمرار في حجز هذا العدد الكبير من قوات الاحتياط الذين يشكلون عماد القوة الاقتصادية في ميادين مختلفة وتُرتب الحرب عليهم الكثير من المشاكل الاجتماعية والمالية. وقد تحدثت تقارير عن تسريح عدد من الجنود في الأسابيع الأخيرة.
- لا معنى لتوسيع الحرب مع لبنان في حال لم يقم الاحتلال بهجوم بري من شأنه أن يحسم القتال. إذ إن نظرية الحرب من الجو سقطت في العام 2006، وإعادة التهويل بطلعات طائرات أف-35 لن تغير في الواقع شيئاً يذكر بوجود توازن رعب بين الطرفين. وسبق أن حددت لجنة فينوغراد بعد حرب 2006 نقاط ضعف الجيش الصهيوني وأكدت الحاجة إلى إعداد الجيش للحرب في البر. ولا بد من ملاحظة أن نموذج الرفاهية قد أثر سلباً على فاعلية جيش الاحتلال حيث يلتصق أداؤه بالتكنولوجيا أكثر منه بالأداء الميداني القتالي الذي تتطلبه الحرب البرية.
- لا يوجد إجماع في أوساط العدو على ضرورة خوض الحرب في لبنان في الوقت الحالي، مثلما هو الحال في قطاع غزة حيث يسود شعور عارم بالحاجة إلى غسل العار الذي ولّدته عملية "طوفان الأقصى" في كامل مجتمع العدو.
بناء على ما سبق، تبدو الحرب على غزة أولوية أولى لدى المجتمع السياسي الصهيوني، لكن ذلك لا يلغي بالكامل إمكانية حصول تصعيد ولو محدود على الجبهة الشمالية مع لبنان نتيجة حرب الاستنزاف التي تجري على امتداد 100 كلم. وهذا التصعيد المحتمل (قد يسميه العدو في حال حصوله "أياماً قتالية" أو ما شاكل) ربما يهدف إلى الدفع باتجاه إجراء ترتيبات أمنية على الحدود تناسب الاحتلال وتعيد الوضع إلى ما كان بعد انتهاء حرب 2006. مع ذلك، فإن المؤشرات المذكورة آنفاً لا تشجع كثيراً على خوض غمار المخاطرة في لبنان، في وقت تتحول غزة كابوساً حقيقياً لجيش الاحتلال قد يطول بتداعياته.